صدمة بروكسل

إذا كان الذهول هو الشعور الذي استبد بنحو أحد عشر مليون بلجيكي، جراء ما تعرضت له عاصمتهم الوادعة من هجوم إرهابي أسود، يماثل ما تعرضت له باريس وأنقرة وأسطنبول وغيرها من قبل، فإن الصدمة كانت هي سيدة الموقف في أوروبا ومعظم أنحاء العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط الذي بات متهما بتصدير الإرهاب أكثر من تصديره النفط، ثم أصبح منطقة باعثة على اليأس من تسوية نزاعاتها المستعصية.اضافة اعلان
وأحسب أن الغالبية الغالبة من الناس في هذه المنطقة، التي غدت الضحية الأولى للإرهاب، كانت أشد من روّعهم هذا العمل الإجرامي، وأول من ران التحسب والحزن على قلوبهم الواجمة، بفعل ما تنذر به الحماقة، التي أعيت صاحبها دائما، من ردود أفعال دولية لاحقة، قد تطال مضاعفاتها المحتملة نطاقات أشمل من بؤر الإرهاب وحواضنه، ليذهب الصالح بجريرة الطالح، ويزداد الطين بلة، في هذه البقعة الموحلة أصلا.
فقد التقط الرئيس الفرنسي مغزى هذه الهجمة العمياء على العاصمة البلجيكية التي يبلغ العرب والمسلمون فيها نحو خمس السكان، حين قال إنها ضربة موجهة لأوروبا كلها، لاسيما أن بروكسل هي عاصمة القارة البيضاء. الأمر الذي بدا معه فرانسوا أولاند كمن استجاب للتحدي على الفور، وأخذ على عاتقه مهمة عقابية كبرى، لن تتوانى عن الانضمام إليها العواصم المنخرطة سلفاً، وبالحد الأدنى، فيما يعرف بالحرب ضد الإرهاب.
ومع أنه ما يزال من المستبعد أن يرقى أي تطور في الموقف الأوروبي ضد "داعش" إلى حد تجييش الجيوش، والنزول من عنان السماء إلى أديم الارض، طالما أن أميركا بعيدة عن هذا الخيار في عام الانتخابات الرئاسية المحتدمة، إلا أن أي تحول جزئي في المفهوم الأوروبي الخاص بمحاربة الإرهاب، قد يفضي إلى القيام بعمليات جراحية محدودة، هنا وهناك، ولن يكون بعدها في وسع أحد تخيل مسار التطورات، أو توقع المفاجآت التي ستتمخض عن الانزلاق إلى حرب برية طويلة.
صحيح أن ملايين العرب في أوروبا قد داهمهم شعور قوي بهول ما قد يترتب على هذا الفعل الإرهابي من ردات فعل انتقامية، ومشاعر كراهية طاغية، قد تزعزع أسس حياتهم اليومية، على خلفية لون البشرة واللباس والمعتقد الديني، غير أن الصدمة والحس بالاستهداف كانا لا يقلان وطأة لدى العرب والمسلمين في بلادهم، حتى إن بدت الانفعالات أقل هلعا وأعمق غوراً في النفوس المفعمة بالاضطراب أصلا، جراء تفاقم هذه الظاهرة السوداء بين ظهرانينا، من دون أن يكون لنا رأي، أو حول أو مصلحة.
وإذا جاز لي أن أتحدث عن صدمة شخصية إزاء ما جرى في بروكسل، تماثل صدمة الصامتين، فإنني أود أن أعرب، أولا، عن مواساتي لذوي الضحايا. وثانيا، عن عدم قدرتي على فهم مسوغات هذا العمل الهمجي الفظيع ضد أناس أبرياء، بذريعة تافهة تتمسح بعلة أن بلجيكا عضو في التحالف الذي لم يطله من الهجمات الانتقامية غير شرر الكلام، ناهيك عن ذريعة أخرى أشد افتقاراً للسوية الآدمية، وهي "أننا نذيقهم ذات الشراب من الكأس نفسها".
وتزداد الصدمة أكثر فأكثر، حين يقف المرء على أفعال "داعش" في العراق والشام، ويرى كيف لا يستطيع هؤلاء عديمو البصر والبصيرة، التمييز في هجماتهم بين كل من لا يواليهم، على اختلاف ما بين أعدائهم من تباينات؛ ولا يضعون في حساباتهم شيئاً اسمه التكاليف، ولا يعرفون الأولويات، فتراهم يقاتلون ضد نظام الأسد، والجيش الحر، والكتائب الاسلامية، والحشد الشيعي، والصحوات، والجيش العراقي، والأكراد، والأتراك، والغرب والشرق، دفعة واحدة على حد سواء.
إزاء ذلك كله، فإن القضاء على هذه الظاهرة المستشرية في الدول الفاشلة والمناطق الرخوة، لن يكون على أيدي الأنظمة المتهرئة، أو بموجب التكتيكات الغربية القاصرة، أو غير ذلك، وإنما نتيجة فقدان الرشد المطلق، وعمى البصيرة المطبق، لدى قوة مغرورة بفائض ذخيرتها الانتحارية، وبفاعلية استراتيجيتها الوحشية، التي ستقوض نفسها بنفسها، تستهلكها وترتد عليها بانقضاء مزيد من الوقت، وفق قاعدة أن التطرف هو عدو ذاته، وأن سياسة وضع الجميع في سلة واحدة هي الحماقة بعينها، وهي أيضا الطريق الأقصر لبلوغ النهاية الحتمية.