لا أتذكر أول مرة لفت نظري شفيق الغبرا، في الإعلام، لكني أذكر أول مرة رأيته فيها في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، في أبوظبي، كنت أعمل هناك، وكنتُ يومها ضمن حضور مؤتمر المركز السنوي، وهو مناسبة يحضرها المئات، وتحدث شفيق، «الكويتي» عن مستقبل الخليج. عقلية شخص يحب وطنه الخليجي، ويريد تحقيق أجمل مستقبل ممكن له. تحدث بأفكار منفتحة جرئية.
وربما كانت تلك المحاضرة بالشأن الخليجي، سبب اختياري أن أدعوه يوم زار فلسطين ليتحدث في بيرزيت، عن الشأن الخليجي فأبدع.
شفيق واحد من المتحدثين البارعين، بثقافته، وابتسامته، ولغته الأنيقة، ولكنته المصقولة، التي تعرف أنّها عربية، ولا تعرف منبعها «المحلي». هي الفصيحة المبسطة. أو اللهجة المتروبولتان، الجامعة للهجات.
أتذكر، أو أتخيل أني أتذكر، أني فوجئت عندما، قرأت كتاب شفيق «حياة غير آمنة» عن تجربته في الثورة الفلسطينية.
فهمت من هو شفيق. من أبوين فلسطينيين، سافر والداه للكويت عقب النكبة، يتحدّران من حيفا، وأمه من طبرية. حيفا الكرمل، وطبرية حيث البحيرة الجميلة، ومعجزات السيد المسيح، وينابيع الماء الساخن، التي أبدع يحيى يخلف بوصفها في رواياته خاصة علاقة الإنسان بالبيئة والأرض والحيوان، (مثلا في رواية ماء السماء)، حميمية مبكية كجمال سيرة شفيق، وهو يسير على خطى ابن رام الله، حنا ميخائيل (أبو عمر). فالأخير التحق بالثورة الفلسطينية نهاية الستينيات وهو ينهي الدكتوراه في هارفارد، وصار مقاتلاً في القواعد، يعمل على تشبيك العلاقات مع نخب العالم الثقافية والسياسية، ويُعلّم المناضلين الأميين القراءة والكتابة. ويقاتل براً وبحراً أمام العدوان.
سار شفيق على درب حنا، فبعد تخرجه من جورج تاون التحق بالثورة. صار ابن العائلة المرموقة يصحو يومياً في قاعدته العسكرية في الجنوب اللبناني، ينفض فراشه من العقارب تحتها، ويعيد ترتيبها ويقاتل الاحتلال.
صارت بيننا صداقة. وفي أول مرة جاء لفلسطين، العام 2012، لم يكن مضى على عودتي لفلسطين سوى أيام. لم أكن اعرف الأماكن والشوراع جيداً.
قال لي صديقه أديب جرار، نلتقي أمام فندق قصر الحمرا، في شارع الإرسال، الذي نزل فيه يوماً الراحل الكبير الملك حسين بن طلال، وكبار الفنانين مثل صباح.
وأنا أنتظره جاءتني إمرأة قَدّرتُ عمرها في البداية بالخمسينيات. كُنّا في رمضان، قبيل الإفطار. بادرتني: أترى ما أجمل نسمات الهواء؟ فوجئت بامرأة تحدثني في الشارع (بعد هذا سأعتاد رام الله الحرّة). قلت نعم. اندفَعت كنبعٍ صافي تخبرني عن تاريخ الشارع، الذي هدمت بيوته الحجرية الجميلة بقرميدها الأحمر، وبنيت عمارات تجارية. أخبرتني عن كل بيت كان هنا. ليتضح أنها في السبعينيات من عمرها، هاجرت العام 1958 للولايات المتحدة بعد زواجها بعمر 18 عام، وعادت الآن لتعيش هنا.
جاء أديب، وتعرفت على الطبيب النفسي من عكا، الذي يسافر من بيته في فرنسا كل شهر لعلاج ضحايا السجون الإسرائيلية، متطوعاً. وليخبرني لاحقاً، همساً عن علاقته بخليل الوزير الذي كان يكلفه برصد الإعلام الصهيوني ووعدني بإخباري المزيد، لكنه توفي. ونسق أديب زيارة شفيق لمسقط رأس والده في حيفا ووالدته في طبرية.
كانت فتاةٌ من طالباتي، قد أخبرتني أنها تريد معرفة المزيد عن سيرة والدها الشهيد، ولما كان شفيق قاتل طويلاً مع «عمّار»، رتبت لها ولشقيقاتها، لقاءا معه، ولم أذهب إلى اللقاء لانشغالي بمحاضرة. اتصلت مساء وسألته ماذا حصل «قال انفعالات كثيرة مرّت بنا».
أصبح شفيق في الثمانينيات أستاذٌ جامعي مرموق، بعد حصوله على الدكتوراه من الولايات المتحدة. وعاد ضيفاً على مؤتمر «فتح» العام، 2016 وذهبت معه لحفل الاستقبال للضيوف، وعرفته على عميد الأٍسرى السابق، فخري البرغوثي. ظننتهما لا يعرفان بعضهما، وظنّا أنهما لا يعرفان بعضهما. أثناء حديثهما نظر أبو شادي لشفيق، وقال ألست «جهاد»؟ واتضح أنّ شفيق قائد القاعدة العسكرية التي تدرب بها فخري في لبنان، في السبعينيات وتعانقا مجدداً.
عاد شفيق وكتب عن تاريخ التواجد الفلسطيني في الكويت، كتاباً مهماً، ويواصل الكتابة.
ننتظر المزيد من شفيق، ونقول له ولحنا ميخائيل، الذي لا نعرف للآن ماذا حدث منذ فقدت آثاره في مهمة نضالية في البحر العام 1976: على خطاكم، يسير كثيرون، بأشكال مختلفة.