صعود اليمين والشعبوية في أوروبا

أحضر حاليا مؤتمر حزب العمل الهولندي. وهو مؤتمر تحضيري للانتخابات. وكنت قد حضرت العام الماضي مؤتمر حزب العمال البريطاني التحضيري للانتخابات التي خسرها الحزب بعد ذلك لصالح المحافظين، واستمرت الموجة اليمينية بالتصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي فرنسا التي تتهيأ للانتخابات، هناك مخاوف جدية من صعود اليمين المتطرف. والآن، فإن حزب العمل الهولندي الذي يحكم في ائتلاف مع الليبراليين، يخشى خسارة الانتخابات المقبلة في آذار (مارس) 2017، والتعبئة كلها دفاعية تحذر من هذا الخطر.اضافة اعلان
المخاوف ليست من الاتجاه المحافظ واليمين التقليدي الذي تداور مع اليسار الديمقراطي على الحكومات طوال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل هي من اليمين الجديد الشعبوي؛ وهو يعود بجذوره إلى الفاشية والنازية. وقد بقي هذا التيار معزولا ومحاصرا حتى عاد مع تعمق أزمة المجتمعات الأوروبية والهجرة من العالم الثالث، خصوصا المغرب العربي، وأخيرا الإرهاب. وهو يعود بمواقف تلاقي هوى لدى الجمهور بخطاب العداء للمهاجرين، والخوف على الهوية الأوروبية المسيحية، ثم أقوى ورقة بيده الآن، وهي الإرهاب القادم من العالم الإسلامي.
إلى جانب اليمين المتطرف، هناك الشعبوية الجديدة التي تقدم خطابا غير منهجي وغير مسؤول يداعب مشاعر النفور عند الجمهور من السياسة والسياسيين والأحزاب التقليدية، بيمينها ويسارها؛ وتطرح حلولا وهمية لا تقدم إجابات محددة لسياسات بديلة، لكنها تهاجم كل ما هو قائم. وهي في النهاية تلتقي وتصب عند اليمين المتطرف في الموقف من الهجرة والأجانب والإسلام والنقمة على سياسات التسامح والانفتاح ودمج المهاجرين والسياسات الليبرالية تجاه الأقليات والتنوع الثقافي. والشعبوية تصعد خصوصا في دول شهدت حكومات ائتلافية بين اليمين واليسار، بسبب عدم حصول أي منهما على أغلبية، ورفض أي منهما استكمال أغلبية برلمانية بالائتلاف مع اليمين المتطرف من جانب المحافظين أو اليسار المتطرف من جانب العماليين، فتشكلت أغلبية كبرى من الحزبين الكبيرين، كما في ألمانيا، بتسوية وسط في السياسات، وجدت نفسها في أزمة في السنوات الأخيرة؛ كما هي الحال ميركل التي نقم عليها الجمهور بسبب استقبال المهاجرين السوريين.
في هولندا نفس المشكلة، حيث يصعب أن تجد سائق تاكسي أو صاحب مطعم أو عاملا فيه ليس مغاربيا أو تركيا أو باكستانيا، والآن السوريون. وقسم كبير من هؤلاء اكتسبوا المواطنة بسبب السياسات الليبرالية القديمة. والأحزاب العمالية تجد نفسها في مأزق وهي تحاول، بصورة ما، إظهار بعض التشدد، لكنها لا تستطيع الانقلاب على القيم التي نشأت عليها. وصعود ترامب أظهر بدقة أين يمكن أن يصل الجمهور الذي تخاطبه الشعبوية؛ فينتخب في الصناديق من يخجل أن يؤيده في العلن، كما حصل في استطلاعات الرأي مع ترامب.
استمعت صباح أمس إلى خطاب رئيس الحزب الذي كان جريئا في الدفاع عن مبادئ وقيم الديمقراطية الاجتماعية. واعترف أن الانقسام والسخط يسودان في المجتمع، لكن الحل الذي يقدمه اليمين المتطرف وهمي؛ يخاطب الغرائز لكنه لا يعطي مستقبلا للمجتمع الذي يحتاج إلى التضامن والعدالة والخدمات للجميع، وعدم الانسحاب من الدور الإنساني، لأن المساعدة في حل الصراع وإعادة السلم والتنمية في بلدان مثل سورية، هي العمل الحقيقي على خط الدفاع الأول لحماية أوروبا من الإرهاب، وليس الانعزال.
الحقيقة أنه يثير الإعجاب هذا الوفاء المتجدد للقيم العريقة لليسار والديمقراطية الاشتراكية الأوروبية. فبعد عقود من العمل كأحزاب حاكمة أو شريكة في الحكم، تعود بنفس إنساني وأممي واجتماعي متجدد، يقوم على إعلاء نفس القيم والمبادئ التاريخية، حتى بالتكيف مع زمن ما بعد العولمة وثورة تكنولوجيا المعلومات. وقد التقينا وزير الخارجية الهولندي كوفود أوروبية وعربية، فتحدث بتواضع عن تحديات المرحلة، ورفض التخلي عن دور أوروبا الإيجابي والصديق تجاه العالم الثالث ومناطق الأزمات. وقال إنه يعتز بأن الحزب أصر على المشاركة الأممية في المؤتمر، وأن وجودنا رسالة للداخل أيضا حول سياسة الحزب في مواجهة اليمين واليمين المتطرف والشعبوية التي تقوم على الانعزال والمصالح الوطنية الضيقة. وتمنى أن تشهد أوروبا، من هولندا ابتداء، صد ودحر موجة اليمين المتطرف والشعبوية.