"صفقة القرن": الجزء الأخير من فخ أوسلو الذي نُصب للنخب السياسية الفلسطينية

20190708T135715-1562583435057577900
20190708T135715-1562583435057577900

جوزيف مسعد* – (ميدل إيست آي) 16/7/2019

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

اضافة اعلان

كيف تم تحول النضال الفلسطيني المتواصل منذ أكثر من قرن من أجل التحرر من الكولنيالية-الاستيطانية الصهيونية إلى صراع لتمكين رجال الأعمال الفلسطينيين والشرطة الفلسطينية التي تحميهم وتحمي الاحتلال الإسرائيلي؟
انتصار إسرائيل في أوسلو
تبدأ القصة في أوسلو. كان الانتصار الأهم الذي حققته إسرائيل عندما وقعت "اتفاقيات أوسلو" مع منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993 هو إلزام منظمة التحرير الفلسطينية بنقل ملف كل العلاقات المستقبلية مع إسرائيل إلى كيان جديد يسمى السلطة الوطنية الفلسطينية.
بذلك، تم اختزال منظمة التحرير الفلسطينية –التي كانت تمثل، حتى ذلك الحين، كل الفلسطينيين في العالم، بمن فيهم أولئك الذين في إسرائيل، وفي الشتات، وفي الأراضي المحتلة في العام 1967- إلى السلطة الفلسطينية، التي تدعي تمثيل فلسطينيي الضفة الغربية وغزة فقط (رفضت إسرائيل السماح لها حتى باشتمال فلسطينيي القدس الشرقية).
وهكذا تم فعلياً حل منظمة التحرير الفلسطينية، وتم خفض الفلسطينيين بمقدار الثلثين. وفي المقابل، اعترفت منظمة التحريرر الفلسطينية لإسرائيل بـ"الحق في الوجود بسلام وأمن"، وهو حق يجعلها –كما تزعم إسرائيل- دولة لكل اليهود في العالم.
ضاعفت إسرائيل ثلاث مرات عدد سكانها اليهود من خلال الزعم بأن كل اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل هم في الواقع إسرائيليون. وهكذا، بينما تم اختزال الفلسطينيين الذين يعيشون تحت سلطة واحدة إلى أقلية، زاد عدد اليهود الذين يعيشون في دولة واحدة بمقدار ثلاثة أضعاف.
احتواء وقمع
بالإضافة إلى ذلك، بُنيت اتفاقيات أوسلو على ربط عدد كبير من فلسطينيي الضفة الغربية وغزة بعملية أوسلو على كل مستوى، من خلال خلق عدد من الطبقات التي أصبحت ترتبط ارتباطاً وثيقاً لا ينفصم بـ"عملية السلام" التي افتتحتها أوسلو.
بهذه الطريقة، ضمنت الاتفاقيات أن لا يكون هناك دائماً أي خيار سوى دعم هذه العملية. وكان أحد الأهداف الرئيسية لأوسلو هو تفكيك تعبئة السكان الفلسطينيين الذين كانوا معبئين بقوة خلال الانتفاضة الأولى، عن طريق إنهاء الثورة من خلال القمع في جزء، وفي جزء آخر من خلال احتواء نشطائها البارزين ومثقفيها في واحدة من هذه الطبقات.
وتشمل هذه الطبقات:
• نخبة سياسية لشغل مناصب السلطة الفلسطينية، والذين يتكونون في معظمهم من ناشطي منظمة التحرير الفلسطينية داخل وخارج فلسطين.
• بيروقراطية لإدارة السكان للسلطة الفلسطينية، والتي يتألفون من الكوادر المحلية ومن العائدين.
• قوة أمنية لقمع المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل وأوسلو، والمؤلفة من رجال حرب العصابات السابقين الذين تحولوا إلى مرتزقة لإسرائيل، والذين سيأتي تمويلهم وتدريبهم في معظمه من الأميركان والأوروبيين.
• موظفو المنظمات غير الحكومية، التي أنشأها الأميركان والأوروبيون، والذين يتألفون من نشطاء سابقين ومثقفين كانوا قد شاركوا في الانتفاضة الأولى.
• وطبقة أعمال –من أولئك الذين عادوا من المنفى لكي يربحوا من أبناء شعبهم ومن عملية أوسلو؛ ومن أولئك الذين كانوا يعيشون مسبقاً في الضفة الغربية وغزة، والذين كانوا يربحون فعلياً تحت الاحتلال قبل أوسلو.
بينما تم توقيع اتفاقيات أوسلو في ذروة هيمنة النظام الدولي النيو-ليبرالي، كان الهدف من تسهيل جني الأرباح لرجال الأعمال الفلسطينيين (يريد عدد من البرامج أيضاً "تمكين" النساء الفلسطينيات ليصبحن رائدات أعمال)، ومن ربط الإنتلجنسيا الفلسطينية بالمنظمات المدنية غير الحكومية، هو ضمان وجود كادر إداري ضعيف نسبياً داخل السلطة الفلسطينية، ومؤسسة أمنية توسعية لقمع أي مقامة لهذا النظام system.
مقاول من الباطن للاحتلال
بينما وعد الإسرائيليون في أوسلو فقط بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للفلسطينيين -ولكنهم لم يعِدوا أبداً بالسماح للفلسطينيين بإقامة دولة خاصة لهم، أو بالانسحاب من المناطق المحتلة، أو بالتوقف عن بناء المزيد من المستوطنات، ناهيك عن تفكيك المستوطنات القائمة، أو منح الفلسطينيين حق تقرير المصير، كان دور السلطة الفلسطينية هو أن تكون مجرد مقاول من الباطن للاحتلال، والمكلف بإنهاء الانتفاضة وقمع أي تجلٍ مستقبلي للمقاومة ضد الإسرائيليين.
مع أن الطبقة السياسية واصلت إيواء الأوهام بأنهم سوف يُمنحون على الأقل دولة-بانتوستان، والتي يستطيعون التظاهر بأنها دولة حقيقية ويحتفظون بأي سلطة يمكن أن يسمح لهم الإسرائيليون بالاحتفاظ بها، لم تكن لدى الإسرائيليين أي نية لمنحهم أبداً مثل هذا الكيان.
بعد أن أدت الغرض منها كسلطة انتقالية لمساعدة إسرائيل في قمع الشعب الفلسطيني من خلال التنسيق الأمني –وهي وظيفة مركزية للسلطة الفلسطينية، والتي وصفها محمود عباس بأنها "مقدسة"- تشعر إسرائيل وترامب الآن بأن السلطة الفلسطينية قد استنفدت دورها وأصبحت فائضة وغير ضرورية.
وهنا تدخل "صفقة القرن". وتتضمن "الصفقة" إسناد دور واحد فقط للسلطة الفلسطينية، وهو نفس الدور الذي كانت أوسلو قد أسندته لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبالتحديد أن على السلطة الفلسطينية أن تقبل بـ"الصفقة"، وأن تسلم سلطتها إلى رجال الأعمال الفلسطينيين (ورجال الأعمال الآخرين من العرب والدوليين، ورائدات الأعمال من النساء بدرجة أقل)، وحل نخبتها السياسية، وتسليم السلطة المحلية كلها إلى مؤسستها الأمنية.
هدف "الصفقة"، مثلها مثل اتفاقيات أوسلو التي تشكل الصفقة طورها النهائي، هو الإيهام بأن كل الشعب أبناء الفلسطيني في كل مكان يحتاجون إلى رجال الأعمال ورجال الشرطة فقط، وليس إلى إنهاء الكولنيالية-الاستيطانية الإسرائيلية والاحتلال.
التنسيق الأمني
جهاز الأمن التابع للسلطة الفلسطينية، الذي قتل وسجن الفلسطينيين منذ العام 1994، مدرب تدريباً عالياً على أيدي الأميركيين ويحظى بمديحهم. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1994، بعد وقت قصير من دخول غزة، قتلت شرطة عرفات ما لا يقل عن 13 فلسطينياً غير مسلحين وجرحت 200 في غزة بسبب اجترائهم على التظاهر ضد اتفاقيات أوسلو.
وخلال زيارته لغزة في أوائل العام 1995، أشاد نائب الرئيس الأميركي في ذلك الحين، آل غور، بعرفات وامتدحه على إقامة محاكم عسكرية لمحاكمة أولئك الفلسطينيين الذين عارضوا أوسلو.
بينما ساعدت وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه) قوات الأمن الفلسطينية في عمليات سرية في البداية، سوف تصبح الولايات المتحدة في وقت لاحق مسؤولة علناً عن تدريب هذه القوات.
وقد أشرف الفريق كيث دايتون، الذي عمل في منصب المنسق الأمني الأميركي للسلطة الفلسطينية في الفترة من شهر كانون الأول (ديسمبر) 2005 وحتى تشرين الأول (أكتوبر) 2010، على تدريب هذه القوات وعلى الانقلاب الذي قامت به ضد حركة حماس المنتخبة ديمقراطياً في العام 2007 –وهو انقلاب فشل في غزة ونجح في الضفة الغربية.
قبل أن يأتي إلى الضفة الغربية، كان دايتون منهمكاً في خوض حرب أميركا ضد الشعب العراقي في العام 2003. وخلفه الفريق مايكل مويلر، الذي خدم حتى العام 2012 قبل أن يخلفه المشرف الحالي، مساعد الأدميرال باول بوشونغ.
وكان الاتحاد الأوروبي بدوره يقوم بتمويل وتدريب شرطة السلطة الفلسطينية من أجل أداء نفسه المهام من خلال مكتبه "مكتب التنسيق الشُرطي للاتحاد الأوروبي لدعم الشرطة الفلسطينية"، منذ العام 2006.
شكلت مؤسسة الأمن التابعة للشرطة الفلسطينية نجاحاً إسرائيلياً رئيساً، والتي يُسند إليها الإسرائيليون الفضل على النحو الواجب في إحباطها المستمر للغالبية العظمى من عمليات المقاومة الفلسطينية ضد جيش الاحتلال.
العمل كالمعتاد
بالنسبة لطبقة الأعمال، التي كانت ذات فائدة أساسية في إقناع عرفات في العام 1993 بتوقيع اتفاقيات أوسلو، فإنها تواصل تنسيق نشاطاتها التجارية مع الإسرائيليين.
بينما كان رجال الأعمال والمثقفون المؤيدون لطبقة الأعمال قد وعدوا الشعب الفلسطيني بأن عملية السلام سوف تحول المناطق المحتلة إلى سنغافورة، أصبح جاريد كوشنر الآن هو الذي يقدم وعوداً مماثلة في "الصفقة" التي يقوم بإعدادها.
في واقع الأمر، وسط التحضيرات لمؤتمر البحرين المتضمن في صفقة القرن، كشف موقع الأخبار الإسرائيلي الإلكتروني "والا" قبل أسبوع من تاريخ كتابة هذه السطور، عن أن رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الفريق أفيف كوشافي التقى بأحد المليونيريين الفلسطينيين قبل شهرين في رام الله لمناقشة الوضع الاقتصادي الحالي في الضفة الغربية.
كما احتفى الإسرائيليون بملياردير فلسطيني يمتلك عدة أعمال في المناطق المحتلة بوصفه بأنه "روتشيلد" الفلسطينيين.
لا عملَ بطولياً
لم يكن رفض السلطة الفلسطينية حضور مؤتمر البحرين قبل بضعة أسابيع عملاً بطولياً، وإنما كان بالأحرى عملاً من أعمال الحفاظ على الذات. فبمعرفة أن هدف "صفقة القرن" هو إجبار الطبقة السياسية في السلطة الفلسطينية على حل نفسها، اختارت السلطة الفلسطينية عدم الحضور.
في حين أن قلة من رجال الأعمال الفلسطينيين حضروا مؤتمر البحرين (اعتقل أمن السلطة الفلسطينية واحداً منهم فقط، صلاح أبو ميالة، بعد عودته إلى الضفة الغربية، وتم إطلاق سراحه فيما بعد)، فإن بقيتهم ظلوا بعيدين عن البحرين في عرض للتضامن مع الطبقة السياسية.
مع ذلك، تعرف السلطة الفلسطينية جيداً أنه في حال نجح الأميركان والإسرائيليون في فرض الصفقة، فإن رجال الأعمال الفلسطينيين وأجهزة الأمن الفلسطينية سوف تعمد على الأرجح إلى التضحية بالطبقة السياسية الفلسطينية والمضي قدماً نحو "تحرير" فلسطين بإضافة مزيد من الأرباح إلى خزائنهم والمزيد من القمع لبقية الشعب الفلسطيني.

*أستاذ السياسة العربية المعاصرة والتاريخ الفكري بجامعة كولومبيا بنيويورك. وهو مؤلف للعديد من الكتب والمقالات الأكاديمية والصحفية. تشمل كتبه "التأثيرات الاستعمارية: صناعة الهوية الوطنية في الأردن"؛ "العرب الراغبون"؛ "صمود القضية الفلسطينية: مقالات عن الصهيونية والفلسطينيين"؛ وأحدث كتبه هو "الإسلام والليبرالية".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: 'Deal of the century': Final part of the Oslo trap laid for Palestinian political elites