صناعة النخب الصغيرة

أكثر ما يستفز العقل والإحساس في المشهد السياسي الأردني الراهن هو ذلك السباق المحموم بين مراكز القوى والمتنفذين في الدولة والمجتمع لتصنيع قيادات فكرية وإعلامية جديدة تتولى مهمة الترويج لأولياء نعمتها وتجميل أخطائهم والدفاع عن خطاياهم، وتنقضّ على منافسيهم في لعبة المصالح المشبوهة التي تشدنا إلى الوراء وتعيدنا إلى المربعات الصفرية الأولى في الجهد الوطني الإصلاحي، وتشوه صورتنا في الإقليم وفي العالم، برداءة الطرح وشخصنة الموقف وشيطنة الآخر.اضافة اعلان
من يقرأ ما يكتب في الكثير من صفحات الجرائد والمواقع يلمس ميلا واضحا إلى تسطيح الأفكار وتنشيط الهواجس ودغدغة العواطف والانحيازات، ومحاولة اختصار الدولة والمجتمع في نطاق المماحكات الصغيرة بين شخصيات مسؤولة وأخرى كانت في مواقع المسؤولية، وبين أسماء لا يكاد ينجو منها أحد من شبهة الفساد. ومن يربط بين المواقف والتحولات في ما يكتب وينشر يعرف بالضبط هويات الفئات المتصارعة وأدواتها، ويستطيع أن يتوقع مسبقا ردود أفعالها إزاء أي قضية كبيرة أو صغيرة في حياتنا السياسية.
للحكومة كتّابها ومثقفوها، وهم واضحون تماما في انسجامهم مع التوجه الحكومي، ويتناغمون بشكل لافت في دفاعهم عن القرارات والتوجهات الرسمية بغض النظر عن صحتها وجدواها. وللمعارضات أيضا كتاب ومثقفون يتكئ الكثيرون منهم على جدرانهم العقائدية، ويلجأ بعضهم إلى رفع الصوت العالي بالموقف الصغير والتشويش والإثارة ويطلقون الاتهامات الظالمة لمن يختلف معهم في الموقف. ليس في هذه الصورة ما يجعلنا مختلفين عن الآخرين، فكتاب الحكومات والمعارضات موجودون في كل الدول القريبة منا والبعيدة، وأجنداتهم واضحة ومحددة، وكذلك فإن تأثيرهم في الواقع السياسي لبلدانهم واضح ومعروف. لكن ما يميز مشهدنا الإعلامي هو استحداث المنابر وتقديم "كتاب" لا علاقة لهم بأبجديات الكتابة وتلميع أسماء لا تجيد شيئا غير "التلميع"، وتفريغ محتوى الحوار الداخلي من مضامينه الوطنية الراقية، والهبوط بلغة الخطاب إلى مستويات الردح والقدح والتحريض.
في الغالب يرتبط "النجوم الجدد" بمرجعيات وأشخاص كانوا نجوما فيما مضى، ويعكسون آراءهم ومواقفهم، ويتحولون إلى رؤوس حراب صدئة في المواجهات وتصفية الحسابات بين المتنفذين المتصارعين، ما يحول دون القراءة الواقعية للمشهد السياسي الداخلي من خلال الإعلام.
وقد استطاع المتنفذون وذوو الأيدي الطائلة وأصحاب الأجندات الأمنية والمالية والانحيازات الفكرية والجغرافية في السنوات القليلة الماضية التأثير على الإعلام الأردني سواء باختراق مؤسساته الكبيرة أو بتأسيس منابر جديدة لا ينحصر صغرها في أحجام مكاتبها أو رؤوس أموالها، وبذلوا جهدا غير محمود لتصنيع نخب جديدة تقتحم المشهد الإعلامي والسياسي في عملية زحف إحلالي حققت ما نراه الآن من بؤس في الإعلام وإدارته.
لدينا الكثير مما لا نكتب عنه خشية التأويل الموجه والتفسير الخاطئ، ولدينا أيضا الكثير من المعلومات التي لا نستطيع نشرها من دون وثائق، ولدينا الكثير من الملاحظات حول بزوغ نجوم واختفائها فجأة من سماء الإعلام الأردني، لكن التفاصيل تظل بلا قيمة حقيقية أمام خطورة الظاهرة وما تمثله من استقواء على عقل القارئ وعلى وعيه. وما يعنيه المضي في هذا الطريق من تسطيح لا يليق بوعينا الجمعي.

[email protected]