صناعة "حمار وحشي"..!

في تموز (يوليو) الماضي، نشرت صحيفة "الواشنطن بوست" الأميركية خبراً طريفاً: نشر طالب مصري كان يزور حديقة الحيوانات في القاهرة صورة لنفسه بجانب ما بدا حماراً وحشياً. لكنه علَّق بأن هذا الكائن كان في الحقيقة "حماراً بلدياً" رسموا عليه خطوطاً ليبدو "وحشياً".اضافة اعلان
في الخبر، اقتبست "الواشنطن بوست" أيضاً عن وكالة "رويترز" حادثة مشابهة وقعت في غزة في العام 2009، حيث عرضت حديقة الحيوانات هناك أيضاً حمارين أبيضين بلديين، رُسمت عليهما خطوط سوداء ليمُرّا كحمُر وحشية. وفي التفسير، قال ابن صاحب الحديقة لرويترز في ذلك الحين: "في المرة الأولى استخدمنا الطلاء، لكن ذلك لم يبدُ جيداً. لكن الأولاد لا يعرفون، ولذلك يسمّونها حميراً وحشية، وهم سعداء برؤيتها الآن". أما السبب في هذا "المكياج"، فهو أن تهريب حمار وحشي حقيقي من مصر –بسبب حصار الكيان للقطاع- سيكلف صاحب الحديقة 40.000 دولار، بينما تؤدي الحمير المدهونة عملاً جيداً الآن.
الطالب المصري الذي فضح القصة، كتب تحت الصورة: "الغباء وصل في البلد إنهم جايبين حمار بلدي ومخططينه على إنه حمار وحشي، وهكذا ومن غبائهم نسوا يدهنوا الإسود تاني فا بهت على وش الحمار. وودان الحمار الوحشي بتبقى صغيرة زي الحصان كده فا مش ده يغبي مش ده/ *توثيقا للحمار البلدي المتوحش*/ هتلاقوه في الحديقة الدولية في القاهره ومعاه حمار تاني بردو" (الأخطاء الإملائية والنحوية من المصدر).
صحيح. من الغباء عرض شيء مزور بطريقة سهلة سيئة الاكتشاف. كما أن في ذلك استغباء واضحاً للجمهور. لكن طرافة قصة الحمار الوحشي المدهون تحيل إلى طُرفة كبيرة بهتت طرافتها بسبب الاعتياد والإلفة: هناك الكثير جداً من الأشياء التي تُباع علينا يومياً بغير حقيقتها، بإضافة "مكياج" ما؛ بصري أو عاطفي أو خطابي، لإقناعنا بشرائها –ونفعل.
بالإضافة طبعاً إلى آلاف السلع التي نشتريها لأن عليها "ليبلات" تجعلها "حميراً وحشية" وهي حمُرٌ بلدية، هناك أيضاً طغيانات تُعرَض على أنها "ديمقراطيات". وفي كل هذه الإبداعات، دائماً ما تسيل الخطوط السوداء وتبهت ويتفشى الطلاء مع "المطر" و"القيظ"، لكنَّ أحداً لا يُعنى بإعادة تظبيط "المكياج". لماذا يتعب، فـ"الأولاد لا يعرفون، ولذلك يسمّونها حميراً وحشية، وهم سعداء برؤيتها الآن"!
بالمناسبة، ينسب العرب "الحمار الوحشي" إلى فئة الحمير، بينما ينسبه الغرب إلى فئة الخيول. وفي التعريفات القاموسية الإنجليزية لكلمة zebra، فإنه ""حيوان بري أفريقي يبدو مثل حصان، على جسمه خطوط سوداء أو بنية على خلفية بيضاء". و"هو حصان بري أفريقي، عليه شرائح سوداء وبيضاء". ومع أن الإنجليز ينسبونه إلى أفريقيا، فقد ورد ذكره -وإنما كحمار وليس كحصان- في الشعر الجاهلي. مثلاً، في عَينيَّة أبي ذؤيب الهذلي: "والدّهرُ لا يبقى على حدَثانه... جَونُ السُّراةِ له جدائدُ أربعُ" (الجدائد: الأتُن، يريدُ حمار الوحش).
أياً يكُن، لكثرة شيوع الزيف والغش حولنا في كل مكان -في السلع، والأشخاص، والخدمات، والسياسة- حتى دون عناية بإتقان المكياج، يتكون انطباع بأننا لا نعيش في عالَم حقيقي. إنّه أقرب في الحقيقة إلى "حديقة حيوانات" تجارية كبيرة، أنشئت لعرض بيئة مُختلقَةٍ جملة وتفصيلاً، لا تنتمي إلى هنا. فيها نباتات وكائنات تقنعك بأنك تقوم برحلة "سفاري" في بلاد الأسود والزرافات. وأنتَ لا تذهبُ إليها لكسر الرتابة وإسعاد الأولاد في نهاية الأسبوع، وإنما تسكن وتعمل فيها وتألفها، إلى حدّ أنك لا تلاحظ الألوان وهي تبهت وتسيل عن وجوه الحمير، والأوراق وهي تسقط عن الأشجار المرسومة بلا عناية.
لضعف الإمكانيات، وبسبب "الحصار الإسرائيلي"، و"لأن الأولاد لا يعرفون... وسعيدون"، لا حاجة إلى دفع كلفة استيراد حيوانات حقيقية. وسوف يكفي استعمال أشياء "بلدية" على علاتها، وطلاؤها بلا إتقان بألوان ما، ووضع شاخصة تسمّيها بالاسم الذي يُراد أن تبدو عليه: "حمار وحشي"، مثلاً. وفي الحقيقة، ما دام الناس يدفعون ثمن التذاكر، ويستروحون و"ينبسطون"، فلماذا يتكلف أصحاب الحديقة ثمن حمار وحشي حقيقي مُهرّب من مصر؟!