"صندوق الرأس"

ليس هناك شعب تحوّلت ثقافته السياسية والاجتماعية مرة واحدة قبل أن يحقق نظام حكم أفضل

لعلّ من أسوأ الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها بعض المثقفين أو السياسيين في العالم العربي قولهم إن فساد أحوالنا وتأخرنا وكثرة مشاكلنا إنما مرده إلى "عدم وعي المواطن" أو إلى فساد ثقافة المجتمع، وأنّ مشكلاتنا السياسية والاجتماعية "لا يحلّها صندوق الاقتراع لأنها (أي المشكلات) تكمن في صندوق الرأس"، كما يقول جورج طرابيشي!!

اضافة اعلان

مناسبة هذه الإشارة هي حلقة برنامج "حوار العرب" الأخيرة، التي بثتها قناة "العربية" وناقشت فيها المجتمع المدني في العالم العربي، وكان المهندس عمر المعاني، أمين عمّان ضيفا من ضيوف البرنامج، ومن ضمن الأفكار التي أيّدها المعاني أن إحدى المشكلات الأساسية التي تقف عقبة في وجه قيام مجتمع مدني ناضج وفاعل ومؤثر في مجتمعاتنا العربية ومنها المجتمع الأردني، إنما يتمثل في "عدم وعي المواطن"!!

والحقيقة أن هذه "تهمة" شائعة يجري ترديدها على ألسنة مثقفين وسياسيين وعاملين في مجال العمل العام من دون إدراك ما تخفيه من تشخيص قاصر، يجنح للتهرب من المسؤولية وإلقائها على طرف آخر؛ ذرا للرماد في العيون. كيف ذلك؟

قد يجوز لنا عند توصيف وتحديد أسباب ضعف الحداثة السياسية والثقافة الديمقراطية في مجتمعاتنا أنْ نذكر منها وجود بنية اجتماعية وثقافية تقف عقبة أمام التحديث والتغيير ومتطلباته، لكن لا يجوز لنا أن نضع نقطة ثم نقف عند هذا التوصيف، من دون أن نقول إن سبب غياب هذه البنية هو السياسات والممارسات التي تنتهجها الحكومات غالبا. أليست هذه الرأس قد تشكلت عبر مناهج مدرسية وجامعية وعبر خطاب إعلامي وثقافي ودعوي... وتحت إشراف حكوماتنا وقوانينها وتشريعاتها... وهذه كلها ليست بأحسن أحوالها، ولا تصنع ثقافة عامة تقدّس كرامة الإنسان وحريته، وتصغي لأسئلته ولا تقمع حريته وتطلعاته؟. ثقافة عامة تجعل النظام واحترام قيمة العمل والإنتاج وتقدير الكفاءة أساسا للارتقاء الاجتماعي والاقتصادي وليس المحسوبية والفساد والزبونية وغيرها من قيم تشدّنا إلى التخلف. بعبارة أخرى، ما يزال من المشكوك فيه أن من أولويات حكوماتنا خلق مناخ عام من الاستنارة  في أوصال المجتمع ومؤسساته يكون مواتيا للتحديث والإصلاح والإنجازات المتراكمة، وأبعد عن الجمود والسلبية في الأفكار والممارسات.

والقول إن مجتمعاتنا تقوم على بنية من الأفكار والقيم والسلوكات تقدّم في رؤيتها للذات والآخر، وإدارة الشأن العام، موارد مستمرة لتعزيز المحافظة والانغلاق والتخلف، مسألة تستحق النقاش والحوار، تحت عنوان (العائق الثقافي) ، لكن تصوير هذا الخلل في مجتمعاتنا وكأنه "جينات"  للانغلاق والتخلف وغياب التسامح، ليس لنا أمامها أيّ فكاك أو مهرب، هو حديث مغلوط وغير علمي ويتورط في "حتميات ثقافية" لا تقدّم مقاربة دقيقة لمشكلاتنا، بل تنطوي على جلد للذات وعلى "قدَريّة" في التوصيف لا تلتفت إلى أن الأفكار تتغير وتتحول بالممارسة والنقد، وأن العوائق الثقافية التي نتحدث عنها منتجة تاريخيا ويمكن تحويلها، كما يرى عزمي بشارة، الذي يلفت إلى أن إعطاء أو إكتساب الحقوق المدنية للشعوب أمر جوهري يسهم في إعادة إنتاج ثقافتها، إلى جانب أن ممارستها لهذه الحقوق يسهم في تحويل هذه الثقافة، وليس هناك شعب تحوّلت ثقافته السياسية والاجتماعية مرة واحدة قبل أن يحقق نظام حكم أفضل. إذاً فالحكومات، إلى جانب المثقفين ووسائل الإعلام وغيرها، لا بد أن تكون معنية ببناء متدرج لبنية ثقافية واجتماعية، تحتضن التحديث والإصلاحين السياسي والديني كمطالب وحاجات مجتمعية تحظى بالتوافق الشعبي. والتذرع بـ"عدم وعي المواطن" هروب من المسؤولية، وسلوك شبيه بسلوك ذاك الأب الذي يخاف على طفله الصغير الذي تجاوز السنتين ولمّا يتمكن من المشي؛ لأنّ أباه يخاف عليه من السقوط على الأرض والتأذي، ويخشى عليه من مخاطر التجربة وتحدي الحرية، التي من دونها لن يستطيع المشي ومعانقة الحياة واكتشاف العالم.

[email protected]