صواريخ المقاومة وانتقادها

رفضت "حماس" و"الجهاد الإسلامي" أن تُسلما بالمبادرة المصرية المعلنة للهدنة من دون مشاورتهما، وقررتا استمرار العمليات المتمثلة في إطلاق الصواريخ على المدن المحتلة العام 1948. هذا القرار هو جزء من لعبة "عض الأصابع"، ولكنّه يُمثّل تجسيداً للاعتقاد بالقدرة على التأثير، وربطاً مهما للعسكري بالسياسي.اضافة اعلان
هناك الكثير من التشكيك بجدوى صواريخ حركة المقاومة في غزة، وبشأن النتائج الفعلية لها. ولكن التقييم الفعلي لهذه الصواريخ، وللانتقادات الموجهة لها، يقتضي التوقف عند النقاط التالية:
أولا، لقد استطاعت هذه الصواريخ، وإن بثمن باهظ، أن تفرض حالة من الندّية بين المقاومة والعدو؛ حتى وإن لم تكن ندية في القوة العسكرية، ولكن نديّة في قدرة كل طرف على أن يبادر وأن يؤلم الآخر. فهذه الصواريخ تعطّل حياة الإسرائيليين، وتذكرهم بأنّهم لا يعيشون في سلام، وأنّ هناك من يرفض التسليم بالاحتلال، مع توقع خسائر اقتصادية هائلة، وتضع الحكومة الإسرائيلية في مأزق. ويأتي رفض وقف إطلاق النار من طرف المقاومة مهماً، لأنّه يعطي رسالة أنّه ليس الطرف الإسرائيلي الذي يستطيع أن يحدد حدود عملياته. فإذا كان بإمكان الإسرائيليين بدء العمل العسكري، فإنّ الجولة الراهنة توضّح أنّهم قد لا يستطيعون التحكم بمجرياته وتحديد متى ينتهي، وهذا بحد ذاته يزيد من قدرة الردع عند المقاومة، ويعقد الحسابات الإسرائيلية مستقبلاً.
ثانيا، الحديث عن الثمن الباهظ لصواريخ المقاومة، يتناسى أنّه كانت هناك سنوات من التهدئة، استمر في أثنائها القتل الإسرائيلي من دون أي رادع، واستمر توسيع الاستيطان، واستمر بطش الاحتلال، من دون اكتراث إقليمي أو دولي، ومن دون جدوى للمفاوضات لا في وقف ممارسات الاحتلال ولا في تحقيق تقدم سياسي. وبالتالي، فإن وقف المقاومة لا يؤدي إلى أي نوع من الأمان، ولا يحقق أي نتائج سياسية أو دبلوماسية.
ثالثا، يأتي اللجوء للصواريخ وهذا النمط في المقاومة، بثمنه الباهظ، نتيجة غياب أي نموذج فاعل بديل وشامل للمقاومة؛ فالمقاومة الشعبية المدنية والجماهيرية، بقيت نظرية، وممارسة تتم موسميّاً، وفق مبادرات محلية وفردية للجان وتجمعات متناثرة، ولم تظهر قيادة تجمع هذه المبادرات أو تطورها أو تعززها. فلم تتم مواجهة الاحتلال في الميدان؛ لا تجاريّاً، ولا باحتجاجات جماهيرية منظمة كبرى ومستمرة، رغم توق الشارع وقواعد وكوادر مختلف الفصائل للانخراط في حركة مواجهة شاملة. بل إنّ التواصل مع المجتمع الإسرائيلي من قبل فئات محدودة، ورجال أعمال يمارسون التطبيع مع الإسرائيليين جهاراً نهاراً ويدعون لشراكة معهم، يتقدمون في سلم العمل الفلسطيني باطراد، من دون استراتيجية فلسطينية متكاملة فيها خطط مقاومة حقيقية. وواقع الأمر أنّ تصاعد هبّات شعبية مدنية، أو مواجهات جماهيرية مستمرة، يمكن أن يمثل نموذجاً فاعلاً للمقاومة، يفرض بالتالي إيقاع المشهد السياسي، ويُشكل رديفا يتآزر مع ورقة قوة أساسية، هي الصواريخ. ولكن الشعور عند قطاعات لا يُستهان بها من الفلسطينيين، هو أنّ رفض الصواريخ لا يأتي في سياق رفض نوع محدد من المقاومة، بقدر ما هو رفض أو تخوف من منطق المقاومة بمختلف أنواعها.
رابعا، وعطفاً على النقطة السابقة، إذا كان النقد والمراجعة مشروعين دائماً، وخصوصاً بالنسبة للمواطن العادي وللإعلام والمراقب المحلل والمتابع؛ وكل شيء خاضع للنقاش، إذا كان هذا النقاش نابعا من خشية حقيقية على المصلحة العامة، فإنّ الأطر القيادية السياسية، والفصائل، لا تملك حق النقد إذا لم تقم بما يكفي لإيجاد منابر عمل سياسي تتمثل فيها شرائح الشعب الفلسطيني. بكلمات أخرى، فإنّ أي نقاش وتقييم موضوعيين لآليات ومعطيات العمل الفلسطيني، في سياقات العمل العسكري والسياسي والاجتماعي، وحتى الاقتصادي، يمكن أن يتما بكل انفتاح، بما في ذلك الانتقاد والمعارضة، في أطر وطنية، مثل المجلس الوطني الفلسطيني، أو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن تصبح ممثلة للقوى الفلسطينية الفاعلة، ومفتوحة لدخول الكفاءات والطاقات الفلسطينية.
فرضت صواريخ المقاومة موازين قوى جديدة، وأصبحت رافعة للطرف الفلسطيني ومصدر قوة. أما انتقادها، فيفقد أسانيده عندما لا يقدم من يمارسه من السياسيين أنموذجا شعبيا فاعلا ومقنعا للمقاومة، ولا تكون هناك أطر عمل فلسطيني ممثلة لمختلف الشرائح والقوى الفلسطينية للحوار والاختلاف والاتفاق ضمنها.