صورة أخيرة بلا تجاعيد

الموت يجلس هنا على كرسي الفرو. عيناه تتحرّكان مثل ذبابتين دائختين، يشرب الشاي المُرَّ، كما يفعل أفراد الحراسة العسكريّة للمحبوسين منزلياً. لا أظنّه يمهلني، لكنّه أيضاً لا يبدو مستعجلاً، قد يأخذني تحت إبطه بعد عام، أو قبل أن أبلغ السأم، وهذا وقت جيد للتفاوض، قد أدعوه إلى المشي على الطريق الترابية، ونبدأ هناك حواراً متكافئاً: أنتَ تريد أنفاسي الأخيرة، ولن أمانع أو أطيل السكرات لأثير شفقتك، لكن اترك لي اختيار طريقة الموت (سنتحدث لاحقاً في شأنها لكنّي لا أفضّلها على فراش معروق)، وأعطني حريّة انتقاء الوقت (أريده في نهاية الأسبوع حين يكون الرأي العام مسترخياً) وأتمنى أن تسمح لي باستبدال النعي في الصحيفة، بخبر صحفي مشوّق صادر عن إدارة البحث الجنائي.اضافة اعلان
عند الواحدة ظهراً سأخرج بسيارتي، قد أصطدم بجسر، أو أسقط في واد، وسيبدو الأمر طبيعياً، عطل مفاجئ في المكابح أفقدني السيطرة، وهوى بي. لن تطلق الصحافة على الحادث وصف انتحار، لكن الشرطة قد تشكُّ بالأمر، وتفترض وجود جريمة، وتُجرى تحقيقات ربما لن تصل لحدّ طلب النائب العام منع النشر، لكنّي سأكون سعيداً حتى إن تمّ اختصار اسمي الطويل بحرفين. عند الواحدة ظهراً سأخرج بسيارتي، ربّما أجتاز الحدود، وأختار حرباً قريبة، وأنحاز إلى الطرف الضعيف، ثمّ أتقدّم بنزق نحو متاريس العدو، وبالطبع لن أعود، وقد يَقتل موتي عشرات الأعداء، وتنشر صورة عابسة لي في وكالات الأنباء، وتتداولها الصحف الكبرى، ويحدث انقسام ديني بشأني: شهيد أم قتيل.. أم عاص.
وعند الواحدة ظهراً سأخرج بسيارتي، لأذهب إلى اختفاء ملغز. تنشر صورتي الأخيرة بلا تجاعيد بعد أسبوع شاق تحت عنوان شائع: "خرج ولم يعد"، ولن أفكّر عندها في العودة، سأختفي كقطرة ماء على سطح رمل حار. بلا أثر، ولن يعثر رجال الشرطة وفاعلو الخير على جثة لي، تتعرّض فيما بعد لعبث المشارط، ولن يكون لي قبر يحدّدُ صلاحيّتي بدون أيّ تفاوض: 1951–2001.
أريد أنْ يظلّ هناك أملٌ بعودتي يتكرّر مثل السراب، كلّ ظهيرة، تنام زوجتي في الشرفة، وتتناوب ابنتاي على الجلوس بجانب الهاتف، ويبقى الغداء ساخناً بانتظاري. لا شريط أسود على الجانب الأيمن لصورتي، لا صفات بائسة مشتقة من الرحمة تسبق اسمي، لا خراف تذبح كلّ عام من أجل أن أنام سعيداً، لا شيء يخصُّ الموتى يصلح لي.
أيها المحقِّقُ الواثق، والطبيب الشرعي المناوب، والقاضي الوقور العادل، والمندوب الصحفي اللحوح، والمراسل الحربي العنيد، ومذيعة التلفزيون اليقظة، أيها المشاهدون والمستمعون والقارئون، المحايدون والمنحازون وغبر المبالين، أعرف أنّ موتي على فراش معروق بمضاعفات السرطان، ليس شأنكم، فقليلون منكم سيأتون لتناول التمور والقهوة المُرّة والدعاء لي بالمغفرة والثبات، وذكر محاسني التي لا أعرفها، بينما ستنشغل المحاكم بالنزاع بين حديثي الزواج، والتدقيق في تواريخ الشيكات المرتجعة، والمحقّق بجريمة قتل تحدث كلّ ليل، والصحافة والإعلام بجهود مُجهَدة لإحياء عملية السلام. سيطلع النهار ويزاول الناس ما يعتقدون أنها الحياة، ويشربون القهوة المحلاة، ويفترشون الطعام فوق صفحة النعي، ولن يغصهم اسمي!