ضدّ معلوم

حتى لو تم إطلاق أي اسم على تلك الطفله المتروكة، فإنه لن يليق بحكايتها اسم آخر سوى "نجاة". ذلك لأنها نجت بمعجزة حقيقية، والفضل يعود الى اليد الحانية لعامل النظافة عبدلله موسى، الذي ساقته رأفة الأقدار لانتشال جسد تلك الصغيرة، الملقى بإهمال كافر بين أكوام القمامة، حائلاً بينها وبين مصير فاجع ترتعد المخيلة هلعاً من مجرد تصوّر عواقبه: كان عبدالله يهمّ بإلقاء محتويات الحاوية، حيث رقدت نجاة، إلى كابسة النفايات!

اضافة اعلان

السؤال المطروح هنا، ببساطة قد تبلغ حدّ السذاجة، هو: كيف؟ أقصد، كيف لأمّ استوطنت صغيرتها الأحشاء، وقاسمتها النبضة والنفس والشهقة، واحتشد الحليب في العروق تمهيداً لعمر من الحنوّ المفترض، كيف لها أن تنكّل بمفهوم الأمومة من أساسها، بفعلة تعجز اللغة عن تجسيد مدى بشاعتها؟ أي ذريعة في الكون تبيح تبرير كل هذا السواد؟ أي قبح ارتكبت يداك أيتها الأم الغاشمة، ومن أجل ماذا؟ وأي نكران رهيب كان يعتمل في رأسك؟

وحين تقوم مديرية الأمن العام بتقييد القضية، فإنّ ذلك يستدعي الكثير من الأسى والخيبة، لأن المجهول معلوم، بل معلوم جداً. غير أننا ما نزال في ذعر من مواجهة مآسينا، عاجزين عن وضع اليد على الجرح أو الجراحات الكثيرة. ثمة فقر أُبيح قتله في ثقافتنا منذ قرون خلت، وثمة جهل وتردٍّ وتراجع لقيم الحق والعدالة والجمال. وثمة جرائم عديمة الشرف يحصّنها ويرعاها عذر مخفف يحرّض على ما هو أرذل وأشد عاراً، كما هو الحال في حكاية الصغيرة التى كانت على شفا لحظة فاصلة وقدرية قبيل تعرض جسدها الطازج الهش إلى الهرس بين أنياب كابسة نفايات ضخمة، لعلها أكثر عدالة. ففي نهاية الأمر، كل شيء يقع تحت أنيابها، يُطحن بسواسية!  

 

وفي كل الأحوال، لابدّ من الإشادة بالجهود الفائقة التي تبذلها وزارة التنمية ومؤسسة الحسين الاجتماعية، في سبيل تعويض أولئك المتروكين في ظلمة الأزقة، من دون ذنب ارتكبوه سوى استجابتهم الفطرية لشروط الطبيعة، التي تدفعهم إلى التشبث بأسباب الحياة على شّحها، وانتزاعها عنوة من بين الأنقاض. والمؤسسة تعمل على تزويدهم بجوازات سفر بأسماء ثلاثية لا علاقة لها بأحد، غير أنها تمنحهم الحق في الوجود وفق وثائق رسمية. كما توفر لهم بعض ما انتُزع منهم، الدفء والسقف والأمان، وتضمهم إلى قوائم الاحتضان التي تفسح أملاً ووعداً باحتوائهم ضمن عائلات تتحرق لزعيق وليد في جنبات بيوتها الموحشة.   

ولعل وقت الكيّ كآخر مراحل العلاج قد حان، ولابدّ لنا من تسمية الأشياء بمسمياتها، والبحث عن حلول جذرية لظاهرة آخذة في التفاقم، إذ نجم عنها منذ مطلع العام 33 رضيعاً ملفوظاً من فئة البشر، وليس فئة القطط أو الكلاب الضالة. هذا كثير عليك يا عمّان، وأنت تقدّمين نفسك للعالم مدينة صديقة للأطفال. وعليك من باب أولى، وقبل الشروع في تشييد أبراجك الشامخات، ضمّ صغارك إلى حضن اتسع لنا جميعاً، ولم يزل.

ويا عبدلله موسى، عامل النظافة في منطقة زهران، سلمت ذراعك وأضاءت روحك بدفء العطاء. ويا أيتها الصغيرة، التي أسميتها على عاتقي "نجاة"، رغم أنك صرت حاملة الاسم الثلاثي الذي ليس له علاقة بأحد تطبيقاً للقانون، لروحك البهية الشقية العصية خجلنا واعتذارنا، فهل تغفرين؟

أديبة وكاتبة أردنية