ضربة ترامب المرتدة

يبدو أن مجموعة الافتراضات التي استند إليها قرار دونالد ترامب، الخاص بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده اليها، انطوت على تقدير موقف صحيح وفق كل المعطيات، مفاده ان الواقع الفلسطيني المنقسم على نفسه، قد فقد قدرته على القيام بردة فعل تتعدى الاحتجاج اللفظي، وان القضية التي كانت ذات يوم تحتل صدارة اهتمامات العالم العربي المثخن بالجراح، قد سقطت من الحسابات السياسية لعواصم منشغلة بفيض من الهموم والمشكلات، وأن السكين الاميركية بات في وسعها المضي في قالب الزبدة دون عائق يعتد به.    اضافة اعلان
وما كان لأحد أن يجادل كثيراً في صحة هذه الافتراضات، ولا في تماسكها الذي لا يخر منه الماء، حيث كل ما كان يطفو على سطح الحياة السياسية الفلسطينية والعربية، ويعتمل داخلها، يعزز هذه الاستنتاجات المبنية على حقائق تُرى بالعين المجردة، وتُلمس بكلتا اليدين، وهو ما راح يغري الرئيس الاميركي وغيره من الخصوم والأعداء، باتخاذ ما يلائم مصالح بلادهم، وتحالفاتهم، من قرارات لا تراعي أي اعتبار، وتنم في الوقت نفسه عن استصغار لذوي الشأن، وعن استهانة بكراماتهم، تماماً على نحو ما جاءت عليه ضربة ترامب المستبيحة للأرض والحقوق والمقدسات.
غير أنه لم يمضِ سوى قليل من الوقت الذي أخذ يعمل كالسيف، حتى اتضح لكل ذي عين بصيرة أن الافتراضات الاميركية تلك، كانت محض تفكير رغائبي، كوّنته غطرسة القوة العمياء، أكثر مما أملته التقارير الاستخبارية المشهود لها بالحصافة والدهاء، حيث جاءت التداعيات الفورية المترتبة على قرار إخراج القدس من وعائها الحضاري العربي الإسلامي المسيحي الخالد، لتؤكد على أن لدى الشعب الفلسطيني بعد، طاقة لا تنفد على الرفض والمقاومة والصمود، أعمق مما كان يتراءى للدبلوماسيين والمستشرقين ودوائر صنع القرار في الغرف السوداء.
وليس من المبالغة إذا قلنا؛ إن المتهور دونالد ترامب قد دفع بخطوات إتمام المصالحة شوطاً كبيراً إلى الأمام، وجعل الوحدة الوطنية أمراً قريب المنال، ومهّد دون أن يدري الطريق أوسع من أي وقت مضى إلى انطلاق انتفاضة جديدة، أحسب أنها ستكون نسخة معدلة عن الانتفاضتين السابقتين، بأداء كفاحي مختلف، ناهيك عما خلقه من تحرك جماهيري افتقرت له الشوارع الفلسطينية منذ أمد طويل، وهو ما تحسب له اسرائيل ألف حساب، وفوق ذلك كله أشعرَ الناسَ المحاصرين في القدس والضفة والقطاع أنهم ليسوا وحدهم، لأول مرة منذ نحو سبع سنوات عجاف.
لم تتوقف جملة النتائج الجانبية الإيجابية عند حدود فلسطين، بل تعدتها إلى العالمين؛ العربي والإسلامي، على نحو ما عكسته المظاهرات الممتدة من موريتانيا إلى اندونيسيا، بعد طول غياب، وما رافقها من حراك دبلوماسي في كل من الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، فضلاً عن مجلس الأمن الدولي، وهو ما أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمامات من جديد، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، وأظهر بصورة لا تخطئها العين مدى رعونة قرار ترامب، الذي بات يقف معزولاً أمام الأسرة الدولية، ووحيداً إلا من حليفه بنيامين نتنياهو.
    إزاء ذلك كله يمكن القول بثقة؛ إن قرار دونالد ترامب الاستفزازي، كان بمثابة ضربة مرتدة، أصابت صاحبها قبل أن تصيب المستهدفين من وراء هذا القرار المجنون، كوّنها حركت المياه في البركة الفلسطينية الراكدة منذ زمن مديد، وأعادت القضية إلى حضنها الدافئ في العالم العربي، وجعلت منها، بين ليلة وضحاها، القضية رقم واحد على خشبة المسرح الدولي، وقوضت الحديث المتواتر عن صفقة القرن المزعومة إلى أجل غير معلوم، وأحرجت حلفاء أميركا، حتى لا نقول إنها أسقطت بأيديهم، ودفعتهم إلى التودد إلى الشارع بعد طول احتقار.
ولما كان قرار ترامب هذا لا ينشئ حقاً، ولا يعتد به في ميزان القانون الدولي، أي كأنه لم يكن، فلا يتبقى منه في التحليل الأخير غير كل هذه الآثار الجانبية المواتية، وكل هذه التداعيات الإيجابية الباعثة على الارتياح، الأمر الذي يمكن معه شكر الرئيس الأميركي الأهوج (من طرف اللسان) على قراره الذي صبّ القمح كله في طاحونة الشعب الفلسطيني، ونقله من حالة الدفاع المتهافت عن النفس، إلى حالة هجوم تشتد ضراوته مع شروق كل فجر جديد.