ضرورة تغيير الفلسفة الاقتصادية

سامح المحاريق الشر المطلق والخير الكامل أمور لا يمكن أن تحدث في العالم الواقعي، وفي مجال الاقتصاد هي أمور مستبعدة، فكل ما يمكن أن نقف عليه هو المزايا والعيوب، وأي قرار اقتصادي يجب أن يرتكن إلى المحصلة الصافية بمزايا تفوق العيوب، والقرارات المتعلقة بالخصخصة توضح هذا الخيط الرفيع بين ما هو مقبول ومرغوب، وضروري في بعض الأحيان، وبين ما يلحق الضرر بالاقتصاد والدولة لأن قرارات الخصخصة إستراتيجية بطبيعتها وتحدد مسألة ملكية أصول الدولة وثرواتها والحقوق المتعلقة باستغلالها لفترات زمنية طويلة. قطاع الاتصالات كان يتطلب تدخلاً من خلال الخصخصة، لأنها تمكن من الاستفادة من التكنولوجيا التي تقدمها الشركات الدولية، ويستفيد من تحول الاتصالات إلى النموذج التجاري الذي يؤدي من خلال المنافسة إلى العمل على تطوير الخدمات وتخفيض تكلفتها مع الوقت، كما أن الدولة تمتلك أدوات سيادية لإدارة القطاع والتحكم في العوائد المتحققة من خلاله، وخاصة على صعيد الترخيص للخدمات المختلفة. بالمقابل، فإنه لا يوجد أي منطق اقتصادي يمكنه أن يبرر خصخصة قطاعات التعدين مثل الفوسفات والبوتاس، لأنها قطاعات مرتبطة بثروات محلية ترتبط بأسعار المعادن في الأسواق العالمية، وعمليات التطوير كان يمكن أن يتم تمويلها من خلال القروض ومن خلال استقطاب الخبرات المتخصصة التي يمكن أن تقود عمليات الهيكلة وتغيير نماذج الأعمال المتبعة، لأن تكلفتها ستبقى في المدى البعيد أقل بكثير من العمل على وجود شركاء في أنشطة التعدين، ولعل الارتفاع المقبل في أسعار هذه المعادن بعد الحرب الروسية – الأوكرانية والعقوبات المتوقعة على روسيا، كان من شأنه أن يزيد من العوائد المتوقع تحقيقها للخزينة والاقتصاد الوطني. المثالان السابقان يوضحان الفرق بين الإدارة الاقتصادية بالقطعة، أو بالفزعة، وفقاً للمصطلح الأردني الشائع، ومحاصرة القرار الاقتصادي في خانة رد الفعل على حادثة أو وضعية اقتصادية معينة ستكون مهما امتدت مؤقتة، وبين التفكير الاستراتيجي الذي يسعى لتوظيف الإمكانيات المتاحة على المدى البعيد، وإعمال الفكر الاستثماري الذي يتطلب رؤية معمقة وأدوات تخطيط مسؤولة، وفي نماذج الخصخصة الأردنية كان واضحاً أن التوجه يتعامل مع ظروف اقتصادية معينة من أجل تقديم حلول مالية لمشاكل تعزيز الإيرادات والمديونية مع تجاهل تغيرات الظروف المتوقعة. الخصخصة لم تحقق النتائج المرجوة، وقدمت حلولاً مؤقتة لمشاكل دائمة، وعاودت المديونية صعودها المستمر لدرجة عدم وجود قدرة على الإنفاق الرأسمالي والاستثماري بالوتيرة التي يتطلبها الاقتصاد الأردني من أجل توليد فرص العمل وتحسين البنية التحتية والعديد من الأغراض الأخرى، وبقيت جميع أدواتنا موجهة للتعامل مع عجز مالي في الموازنة يتزايد من سنة إلى أخرى، وأصبحت خدمة الدين التي كانت أحد المسوغات للإسراع في الخصخصة تلتهم المزيد من الموارد المتاحة. الدروس التي خلص لها تقييم الخصخصة لا يجب أن تنصرف إلى تبرئة أو إدانة أي حكومة، ولكن إلى إحداث تغيير جذري في الفلسفة المتبعة لإدارة الشأن الاقتصادي، ولإحداث ما يجب من تغيير في العقلية لتتحيز للتفكير الاقتصادي من غير الخضوع لوطأة الاستحقاقات المالية والنقدية، لأن كلا من الشأن المالي والنقدي يعتبران انعكاساً للأنشطة الإنتاجية والاقتصادية، والتجميل والإجراءات التجسيرية لا تفعل شيئاً سوى استهلاك المزيد من الوقت في حين تبقى المشكلات الجذرية والعميقة على حالها. المطلوب هو رفع طاقاتنا وإمكانياتنا الاقتصادية، واتخاذ مواقف واقعية حتى لو كانت مكلفة، والتفكير في تخطيط اقتصادي يتجاوز امتحان الموازنة السنوي.

المقال السابق للكاتب

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا

اضافة اعلان