ضوء ضئيل وسط ليل سوري طويل

لكل حرب متعددة الأطراف، مختلطة الدوافع والجبهات، ضحيتان أبديتان؛ أولاهما المدنيون الذين تدور كل الحروب باسمهم ولا تقع من الأزل إلا على رؤوسهم. وثانيتهما، الحقيقة التي لا تنجلي ألغازها كلياً إلا بعد أن يغمد المحاربون سيوفهم. وهو أمر ينطبق بالتمام والكمال على الحرب السورية، التي جرفت في طريقها الهادر عدداً لا يحصى من الضحايا، والمزاعم والمنازل والقتلى والأحلام، والمغيّبين قسراً.اضافة اعلان
لعل الضحية الجديدة لهذه الحرب التي لم تتوقف ليوم واحد منذ نحو خمس سنوات داميات، هي وقف إطلاق النار الراهن، الذي بدا كضوء ضئيل وسط هذا الليل السوري الطويل، تهب عليه الرياح من كل الاتجاهات، وتنفخ عليه فوق ذلك أفواه النافخين، المستريبين من مآلات هكذا تطور قد يفضي، لاحقاً، إلى تقويض رهانهم القائم على التعلق بأهداب الحسم العسكري، حتى آخر الرصاص وآخر الرجال.
وليس هناك غير ذوي النوايا الطيبة، على قلتهم، من يعوّل على نجاعة هذا الترتيب الغامض لإحداث الاختراق، بإرساء قواعد ما سمي بوقف "الأعمال العدائية" التي يبدو أن مغزاها أدنى بكثير من اتفاق هدنة، وأقل من وقف إطلاق نار، لاسيما أن هذا الترتيب الملتبس لا أفق سياسيا له، ولا أرضية صلبة يقف عليها، ناهيك عن افتقاره لآليات تحقق تساعد على إدامته، أو خطة بديلة يؤخذ بها توافقياً في حال انهياره.
وعليه، فإن السؤال لا يدور حول؛ هل أن هذه الهدنة الجزئية المترنحة ستنهار وسط تبادل الاتهامات والانتهاكات المتزايدة، وإنما إلى متى ستصمد، في ظل تواصل حالة عدم الثقة بين الأطراف المعنية؟ خصوصا أن التوازنات النسبية القائمة على الأرض، لا تسمح بفرض أمر واقع قادر على الدفاع عن نفسه بنفسه، حتى لا نقول إن هذا الأمر المشتهى ما يزال بعيد المنال عن أيدي كل المنخرطين في هذا الصراع الذي لم ينضج لحل تفاوضي بعد.
ومع أن المدنيين السوريين المنهكين جراء استمرار القتل والدمار، تنفسوا الصعداء قليلاً، وراودتهم بعض الآمال بقرب تحقيق معجزة هدوء بدت مستحيلة، إلا أن هؤلاء الذين اكتووا مراراً وتكراراً من تجارب الهدن والمصالحات الزائفة، ظلوا على حذرهم السابق، يغالبون أنفسهم ضد أخذ جرعة أمل زائدة، تجنبا لتجرع خيبات رجاء إضافية، ودرءا لاحتمالات وقوعهم فرائس أوهام مميتة، وفق ما بدت عليه ردود أفعال هؤلاء الذين لا يعدون العِصي، وإنما يكابدون آلامها على أجسادهم النحيلة.
بكلام آخر، إذا كان التشاؤم إزاء مستقبل هذه الحالة، المتراوحة بين الانفراج العَصي والانفجار الوشيك، أمراً مبالغاً به من جانب الكثيرين، فإن الشك يصبح والحالة هذه السبيل الأقوم للتعاطي مع هذه التكتيكات الوحشية، الرامية إلى خفض درجة اللهب، وليس إطفاء النيران المشتعلة تحت المرجل، من أجل إبقاء سائر الخيارات مفتوحة، بما في ذلك خيار الهروب إلى الأمام، المفضي بالضرورة إلى احتدام أشد، وذلك إلى أن يألم طرف بعينه، ويقبل مكرها بشروط المرحلة الانتقالية.
ومع أن الجراح الغائرة قد تعمقت كثيرا على مدى السنوات الخمس الرهيبة، وطالت آلامها كل الأطراف المشتبكة في هذا الصراع الكارثي، إلا أن الواضح أنه ما يزال لدى الجميع قدرة ذاتية على مزيد من الصبر والمكابرة، واحتمال مزيد من الآلام المبرحة، لاتقاء شر التسليم بغلبة هذا الطرف، أو بصحة ادعاء ذاك، والظهور من ثمة بمظهر من تسبب بإراقة كل هذه الدماء من دون طائل، سوى التعلل بالأوهام، وغير التهرب من دفع استحقاق الحساب المؤجل مع النفس.
وأحسب أن تقريب حالة وقف الأعمال العدائية إلى الأذهان، جائز بوصف هذه البنية الهشة على أنها بيت من القش، أقيم على أرض رملية رخوة، بلا دعائم أو أساسات، وبلا سقف، الأمر الذي يجعل منه مجرد سقيفة بائسة، غير قادرة على الصمود في وجه رياح الشتاء الباردة، فما بالك إذا كانت الريح عصفاً نارياً، تتناوب على تخليقه الطائرات المغيرة جهارا وخلسة، فضلا عن المدافع الصاروخية والهجمات الأرضية المتفرقة؟ ثم ماذا بعد انقضاء مهلة الهدنة المؤقتة؟ وإلى متى ستستمر هذه اللعبة الماجنة؟ وهل سيكون جنيف الرابع، والحالة هذه، أفضل وعدا من سابقاته الثلاث؟