طبقة وسطى أو أدنى!

لستُ أعرفُ تحديدا أين موقعي الآن بين الطبقات الاجتماعية الثلاث، أذكر أني كنت من "علية القوم" أو "برجوازيا"، في صيغة أخرى، في يوم ما، بعيد إلى حدٍّ ما، حين كانَ لـ"البَريزَة" شأن كبير، وقدرة على شراء ثلاثة أصناف من السجائر الأجنبيّة، مع زجاجة مشروب غازي غير مستردّة، وترفُّع عن استعادة الباقي من بائع الحلويات المتجول!اضافة اعلان
كنتُ أمتلكُ الكثيرَ، الكثيرَ مِنَ "البَرايِزْ" التي كانت تتيحُ لي الإقامة الطويلة في "سكن كريم"، وركوب سيارة المرسيدس 200، البيضاء الطويلة، بأجرة زهيدة، تشمل جلوسي بوضعيّة مسؤول مهمّ في المقعد الخلفيّ، وارتداء بدلة رماديّة مفصّلة، ونظارة شمسيّة مستوردة، وكل ما يلزمُ من قيافة رجُل أردني صارم في شهر تشرين الأول (اكتوبر) من العام 1988، وبعض الوقت الثمين من التاريخ الذي لا يُعيدُ نفسه!
وفي زمن، لا هو قريب ولا هو بَعيد، اهتزَّت الأرضُ من تحت قدمي، وكنتُ على وشك الانهيار كالاتحاد السوفييتي، والتشظِّي إلى كائناتٍ صغيرة كما تتشظَّى الإمبراطوريات إلى الدويلات، لكنَّي تماسكتُ بفضل حُزم الأمان الاجتماعيّ الذي واظبَت الحكومات المتعاقبة على شدِّها نحو خصري الذي بالغ في النحول، وبفضل أنّ "البريزة" احتفظت بقُدْرتها فقط على شراء زجاجة مشروب غازيّ مُسْتردّة!
أدركتُ أنني نزلتُ طبقة كاملة دفعة واحدة، فأصبحت بين عقد من الزمان وآخر من المكان، أنتمي إلى "الطبقة الوسطى"، التي تدافعُ عنها الصحف الحزبيّة، وتحذّرُ دوماً من تآكلها، واندماجِها القصريِّ بالطبقة الأدْنى؛ لكنّي لم أصدق أنَّ ثمة ما هو أدنى من ركوب باص المؤسّسة الحكومي الطويل، بوضعيّة وقوف وتمسُّك بحبل جلديٍّ يتدلَّى من السقف!
ووقفتُ في الباص مثل الواقفين من أبناء جلدَتي أو سكان طبقتي: الرجالُ والفتيان يهبُّونَ تباعا للوقوف، تاركين مقاعدهم للسيّدات والفتيات والطاعنين في السنّ. ومحصّلُ الأجرة يأخذُ "البريزة" ويتغاضى عن إعادة القرشيْن. لاحظتُ ذلك، لكنَّ كبريائي المستمدّ من إرثي الطبقيِّ الغابرِ، منعني، كما منَعَ الركّابَ جميعاً، من طلب الباقي الذي لم يعد يكفي لشراء سيجارة محليّة!
وجاءَ زمن آخر بمجرَّدِ أنْ تداعت بغداد، وسقطت أشياء كثيرة لم تكن راسخَة في الأساس: العملُ العربيّ المشترك مثلا، لم يكن متراصا بما يمنَع عنه الشروخ التي أدَّت فيما بعد إلى انفصاله عن بعضه، وتحوُّلِه إلى مُجرّد "أعمالٍ بالنيَّات". بالطبع لقد تأثَّرْتُ شخصياً بالظروفِ الإقليميَّةِ المحيطَةِ، كما تأثَّرَ ركابُ الباصِ الذين باتَ عليهم أنْ يدفعوا "بريزَتَيْن" غير منقوصتَيْن، ولا ينتظرونَ باقياً!
ازدادت تعرفة ركوب الباص، ووسائط النقل الأخرى، مرة ثانية في إعلان رسمي واضح وصريحٍ صادرٍ عن "هيئة تنظيم قطاع النقل العام"، ثمّ ازدادت مرّة ثالثة، وألمح البيان إلى جرعات أخرى من الرّفع، وحذَّرت الصحف الحزبيّة غير المقروءة من تداعي ذلك على الاختلاط غير المشروع بين الطبقات، ما دفعني إلى تفقّد وتصويب أوضاعي الطبقية. ما عدتُ أعرفُ، على وجه التحديد، إن كنتُ ما زلتُ في الطبقة الوسطى أم على خطِّ الفقر الذي هو بمحاذاة خطِّ عمان- الرصيفة- الزرقاء!
كلّ ما أدركته أنَّه لم يعد لـ"البريزَة" أيّ شأن، ولم تعد لي هيبتي، كما لم تعُد لي هيئتي القديمة التي غيّرت ملامحَها البيانات المتتالية لـ"هيئة تنظيم قطاع النقل العام". ولستُ أعرفُ تحديدا أين موقعي الآن بين الطبقات الاجتماعيّة الثلاث.. مرّة واحدة فقط عرفتُ ذلك، حينَ ركبتُ السيارَةَ البيضاء. لم أصدق أنني استطعتُ دفع أجرتها من أربع "برايز" كاملة. هكذا صوّبتُ إذا وضعيَ الطبقي، وتسنى لي أنْ أهتف مع الهاتفين: "احنا بتوع السرفيس"!