طبيب "غوغل"..!

يحكون قصة طريفة عن طالب قروي، أرسله أبوه ليدرس الطب في الخارج على حساب قوت الأسرة. وغاب "الدكتور" سنوات في البلد الغريب، وفعل كل شيء -إلا الدراسة. وبعد أن طالت المُدّة عن اللزوم ووالده يستحثُّه، جاءت البشارة بأنه تخرج وسيعود بالغنائم. وعاد، واستقبلت القرية دكتورها بالحفاوة والمآدب. وبعد الاحتفاليات، جاء وقت العمل، فاقترح الوالد أن يفتح "الدكتور" عيادته في قريته ليخدم أهله وعزوته. وحاول "الدكتور" أن يتملص بشتى الطرق. قال إنه أخذ الشهادة لأجل الوالد فقط، لكنه لا يحب الطب والآلام والإبر. قال إن الطب لا يطعم خبزاً وأنه يريد العمل في التجارة. ولم يتنازل الأب الفخور العنيد، فأُسقِط في يد الولد.اضافة اعلان
فكر وتدبَّر. اتصل بزميل دراسة أخذ المسألة على محمل الجدّ وتخرج طبيباً حقاً، ورجاه بحق الغربة المشتركة أن ينجده. قال الصديق: "مشكلتك صغيرة. سوف تعمل في قرية بعيدة ولن يدقق عليك أحد. الناس بُسطاء، والحالات عندكم بسيطة. وإذا أشكلت عليك حالة، قل إنها تحتاج التحويل إلى طبيب مختص في المدينة. لكنني سأفيدك بالمهم. سأكتب لك في قرطاس وصفاً للحالات الشائعة وعلاجاتها، وصلى الله وبارك". وصنع الصديق "كتاب الطب" لصاحبه. سطر بضع صفحات في جداول من خانتين، وملأها على النحو التالي: وجع راس: بنادول؛ أسبرين؛ ريفانين/ وجع بطن: بسكوبان/ وجع ظهر: لزقة كوكس... وهكذا.
كان هذا أيام القرية والبساطة، لما كان الوالد يرسل لابنه المكاتيب على ورق بعد أن يجد من يكتبها له، ويستلم الرد مكتوباً في البريد بعد شهرين ويبحث عمن يقرؤه له. أما الآن، في زمن المدنية والتكنولوجبا، فقد أصبح بوسع معظمنا أن يكونوا ذلك "الدكتور" نفسه الذي هرب من الدراسة، بلا دراسة ولا خوف من رقيب. ومساعدة الصديق أيضاً أصبحت يسيرة لا تحتاج رجاء ولا منّة، وإنما هي بقرب "كبسة زر" على الحاسوب أو الهاتف الذكي. اكتب وصف أعراض مرضك على محرك "غوغل"، وسوف تأتيك التشخيصات من كل صوب، ومعها العلاجات المقترحة، بالاسم العلمي والتجاري. وفي كثير من الأحيان، يكون تشخيص "غوغل" قريباً جداً من الحقيقة. وما عليك سوى أن تنسخ أسماء الأدوية على ورقة وتشتريها من الصيدلية.
في السابق، كان الفقراء يذهبون مباشرة إلى صيدلاني الحي لتوفير "كشفية" الطبيب. وبالتجربة، يحفظون أدوية السعال والتهاب اللوزتين والمغص. والآن، أصبح بالوسع استشارة "طبيب غوغل" من البيت والذهاب بالوصفة إلى الصيدلية، وإنما بهيبة العارفين، لكنّ هناك أسبابأ تلجئ الناس إلى هذا وذاك. إنك كثيراً ما تذهب إلى طبيب حقيقي بشهادة وعيادة، فتجد خدمته لا تزيد كثيراً عن "طبيب غوغل" -أو صاحب القرطاس إياه. تجلس قبالته، وتصف له أعراضك، بل وتسمي له مرضك أحياناً. وربما يتسمع على قلبك ويدق بيده على بطنك رفعاً للعتب، ثم يكتب لك الوصفة المحفوظة. لا يوصي لك بتحاليل، ولا يحيلك إلى طبيب مختص يعتقد أنه أقدر على تشخيص حالتك وعلاجك.
ربما يكون هؤلاء الأطباء الشعبيون جداً، الذين يزورهم عشرات المراجعين يومياً لا يخصصون للمريض أكثر من بضع دقائق، معذورين. إنهم يتقاضون "كشفيات" صغيرة حسب مبدأ البيع الكثير والربح القليل، ويساعدون بما يستطيعون لأنهم يعرفون أن زبائنهم فقراء، لا يستطيعون تحمل كلف التحاليل والأشعة وفواتير المختصين. والمؤمَّنون في القطاع العام، ينتظرون أشهراً ويقضون أياماً في العيادات العامة حتى يصلوا مختصاً ويجروا تحاليلاً. والبعض لا تغطي نوعية تأمينهم الطبي الخاص، كثيراً من الفحوصات والأدوية والأماكن.
سيعني هذا أن الكثيرين من المرضى سيظلون مطويي الضلوع على أمراض أعمق وأخطر من التشخيص العارض -على طريقة الطبيب الافتراضي، أو الحقيقي السريع. وعندما تتفاقم الحالة ويلجئهم الألم إلى الاختصاصيين والتحاليل، تكون الأمور قد ساءت وانغلق نصف طريق العودة. بعد ذلك، تخرج الإحصاءات كبيرة الأرقام عن الأمراض الخطرة لدينا، ويحيلها المعقبون إلى مختلف الأسباب -إلا سوء التشخيص وصعوبة وصول المواطن إلى خدمة طبية محترفة وحقيقية تكتشف مرضه مبكراً. وحتى سلوكنا الاجتماعي الذي يأنف مراجعة الطبيب، له مقدمات واقعية سهلة الاكتشاف. وليس سوى أصحاب الحظ القليلين هم الذين يحوزون ترف إجراء فحوص دورية شاملة. والباقون لهم الله، وطبيب "غوغل"!