طلاق..

د. لانا مامكغ صحوتُ من نومي فزِعاً على صوتكِ وأنتِ تصرخين: “اضربني إن كنتَ رجلاً … ماذا تنتظر؟ “ في تلك الليلة المشؤومة، أبي لم يضربكِ، بل رفسَ إحدى الخزانات بقدمِه، فتناثرت وانكسرت، وتفتّت محتوياتها… تماماً مثلما كان يحدث لقلبي الصّغير في كلِّ مشاجرةٍ بينكما! أمّي، كان لديكِ أسلوبٌ ما في إخراج هذا الرّجلِ عن طوْره كلَّ مرّة، والّلحظات الجهنميّة التي حاولتِ فيها استدراجَه إلى إيذائك، ولم يفعل، كنتُ أتعلّمُ منه القوّةَ لا الضّعف! كنتُ أشفقُ عليكِ لمّا ينتهي الشّجارُ بينكما ببكائكِ وحدك في غرفتك، وأشفقُ عليه في الوقتِ نفسه حين كنتُ أكادُ أسمعُ قهرَه المكتوم داخل صدره المتعب، لم يكن أيٌّ منكما سعيداً بهذا الارتباط، لكن، حتى هذه الّلحظة، ما زلتُ أتساءل بحرقة، لماذا اقترفتما الخطأ الذي لا يُغتفر؟ لماذا أنجبتماني؟ وكيف رضيتما بتحوّلي إلى مخلوقٍ بائس منذ كنتُ طفلاً؟ والمفارقة التي لم أفهمهما يوماً، هي في زعْمِ كلٍّ منكما أنّه يتحمّلُ الآخرَ من أجلي فقط… دون أن تلاحظا أنّي كنتُ أموتُ بصمتٍ وبطءٍ بينكما! المهم أنّكما بمعجزةٍ ما، واصلتما الحياةَ معاً في منزلٍ طافحٍ برائحة النّفور، منزلٍ ما اتّسعَ يوماً لكليكما، ثمَّ لأعرفَ أنّكما قرّرتما الطّلاق أخيراً حين كنتُ قد بلغتُ السّنَ الذي يُفترض فيه أن أعيشَ مع أبي بعيداً عنكِ، قد تتساءلين عن شعوري حينها، لأخبركِ بأسف أنّ المعاناة معكما أسهمت في إكسابي منسوباً من البلادة، أو اليأس، أو، باختصار، القرف من حياتي كلّها، قبلَ أنْ أبلغَ العشرين! مفارقةٌ أخرى ما فهمتها يا أمّي، لم ألحظ يوماً أنّكِ أصبحتِ أسعدَ حالاً بعد أن نلتِ حرّيتكِ، ملامحُكِ بقيت تحمل البؤسَ ذاته منذ عرفتك، ولم تنجح محاولاتي في إخراجكِ من شرنقة الضّيق تلك، هذا في الوقت الذي تزوّج فيه أبي بأخرى، فبدا لي مرتاحاً وأكثر تصالحاً مع نفسه، وبصراحة، كانت امرأةً هادئةً حانية وذات شخصّيةٍ قويّة، بدليل امتلاكها لأسلوبٍ لبقٍ سلس في إقناعه بما تريد، فكانت تفعل ما تريد بمباركته، في حين لا أعلم لماذا كنتِ تخرجين أسوأ ما فيه عند أوّل نقاش بينكما! والحقيقة الأخرى التي أخفيتها عنكِ أنّها كانت ودودة جدّاً معي، ولم تتّخذ يوماً موقفَ زوجة الأب المأزومة، في الوقت الذي لم تحاول فيه تقمّصَ دور الأمّ، بل تقرّبت منّي كصديقة، وكنّا نحسن التّواصل، وتبادل الآراء ببساطة، الخلاصة، وهذا ما استنتجته بعد مدّة، أنّها كانت تمتلكُ ذكاءً اجتماعيّاً وعاطفيّاً من طرازٍ رفيع… وكم كانت تؤلمني أسئلتكِ المبطنّة عنهما، واضطراري لتقديمِ إجاباتٍ مراوغة عنها، هل كنتِ نادمة على الانفصال مثلاً؟ لا أعلم، ما أعلمُه يا أمّي الحبيبة هو أنّي أصبحتُ شابّاً، لكنَّ وجعي لم يهدأ، فحين يُكثرون الحديث عن أطفال الطّلاق، ينسون أنَّ هؤلاء يكبرون وتكبر معهم آلامهم، ليقفوا مُنهكين على مشارف النّضج بحمولة ثقيلة من علامات الاستفهام حول العلاقات والحبّ والزّواج… أمّا خيار الإنجاب بعده، فهو ما يزلزلُ كيانَهم تماماً !

المقال السابق للكاتبة

للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنا

اضافة اعلان