طواحين الأطفال!

التشابه بين الأطفال وحبوب القمح كبير جداً؛ فكلاهما يتصفان بالضعف، وينشران السعادة والطمأنينة في أرجاء الكون. وكلاهما أيضا سببان من أسباب ديمومة الحياة على كوكبنا. فمن دون الأطفال لا يمكن أن تستمر الحياة، وتغيب عنها بهجتها؛ ومن دون القمح، يفقد الإنسان مصدراً رئيساً للغذاء، وربما لا تستمر حياته من دونه إلا بجهد جهيد.اضافة اعلان
والطواحين استخدمها الإنسان منذ مئات السنين لطحن الحبوب، إلا أن استخداماتها اليوم قد تغيرت، ومنها:
- طَواحين هوائية: آلَةٌ هوائية يُديرها الهواءُ تستخدم لطحن الحُبوب.
- طواحين مائية: آلَةٌ يُديرها الماءُ لطحن الحبوب.
- طواحين الـ"تي. إن. تي": وهي صواريخ، وبراميل متفجرة، تقذفها الطائرات لحطن البشر، وتهديم البيوت على رؤوس ساكنيها.
هذا يعني أن الطواحين في عصرنا المرعب لم تعد للحبوب فقط، فالأطفال اليوم -وبالذات في شرقنا المتوسط المخيف- صاروا مادة لطواحين القتل والإرهاب العامرة في كل من فلسطين والعراق وسورية، وغيرها من دول عالمنا العربي الذي يراد له أن يبقى مستنقعاً، ودوامة للعنف والإرهاب!
الحيرة التي تغلف روح المتابع للشأن العراقي وفكره، تجعله أحياناً يهرب من سفسطة السياسة ومثالياتها غير الواقعية، نحو المأثور الشعبي؛ لعله يجد فيه بعض التفسيرات والتوضيحات للحالة الشاذة التي يتابعها.
ومن الأمثال الشعبية المعروفة في غالبية أرجاء المعمورة "ضربني وبكى، وسبقني واشتكى". وربما هذا المثل ينطبق على الأوضاع المرعبة في العراق اليوم. إذ إن الحكومة وقواتها الأمنية المدعومة بمليشيات الحشد، ترهب المواطنين، وتقتلهم، وتنهب أموالهم، وتنتهك أعراضهم، وتبتز عوائل المعتقلين منهم، ثم بعد ذلك تشتكي من "الإرهاب"!
متابعة الأحداث الجارية على أرض العراق تجعل الحليم ضائعاً. فحكومة بغداد تدعي أنها تقاتل "الإرهاب"، وأسرعت لدول العالم القريبة والبعيدة لاستجداء النصرة، والشكوى من "الإرهابيين". وقد استنفرت الجهود المدنية والعسكرية لمهمة قتال "الإرهابيين". لكن بمتابعة خسائر "الإرهابيين"، نجد أن غالبية هؤلاء (الإرهابيين) هم من الأطفال والنساء. وهذا لغز لا يمكن تفسيره إلا بأنه استهداف حكومي -مع سبق الإصرار والترصد- بغية طحن المدنيين العزل في محافظة الأنبار بحجة مقاتلة تنظيم "داعش"!
وعمليات الطحن لا تقتصر على أطفال العراق. فقبل أيام، ارتكب المستوطنون الصهاينة في فلسطين جريمة بشعة، حينما صبوا جام غضبهم الأعمى على الطفل الفلسطيني الرضيع علي سعد دوابشة، ذي الثمانية عشر شهراً، في واحدة من أبشع الجرائم الصهيونية التي لا تتوقف. وهذه الجريمة تقع اليوم، وفي كل ساعة في محافظة الأنبار العراقية وغيرها من مدن العراق الصابرة.
أطفال الفلوجة النازحون مع عوائلهم، كانوا ضحية للشمس الحارقة، التي وصلت لمعدلات خطيرة، ذابت أمامها أجسادهم الرقيقة، فأهلكت 52 طفلاً خلال الأسابيع الماضية. ويوم الخميس الماضي، طحنت طائرات حكومة بغداد العشرات من الأطفال والنساء والشيوخ في قضاء الرطبة في الأنبار، إذ خلفت وراءها أكثر من 45 شخصاً، بينهم 14 طفلاً.
وسبق لمساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية فاليري آموس، أن كشفت نهاية العام الماضي بعد "عمليات الطحن" المستمرة في الموصل والأنبار، أن "نصف النازحين والمهجرين هم من الأطفال، وأن الأحداث الأخيرة تسببت بمقتل وتشويه 700 طفل". أما مفوضية حقوق الإنسان العراقية، فذكرت نهاية العام 2014 أن "عدد الأطفال النازحين بلغ أكثر من 300 ألف طفل، توفي منهم ما يزيد على ألف طفل".
وكانت منظمة "اليونيسف" قد أكدت "مقتل 872 طفلاً عراقياً، وإصابة أكثر من 3200 آخرين بجروح، بين العامين 2008 و2010"، فيما ذكرت لجنة حقوق الإنسان البرلمانية العراقية أن "هناك خمسة ملايين و700 ألف يتيم، حتى العام 2013"! فكم هو عدد اليتامى في العراق اليوم؟!
عمليات الطحن الجسدي والنفسي والفكري والاجتماعي والصحي لأطفال العراق -نتيجة استمرار العمليات العسكرية البرية والجوية، وسوء التغذية بسبب انتشار الفقر- ستترك آثارها على مستقبلهم باعتبارهم الحلقة الأضعف، والذين وجدوا أنفسهم في دوامة لها أول، وليس لها آخر!
فهل صار طحن الأطفال من البطولة التي يتباهى بها المجرمون القتلة؟!