طوارئ

لمواسم عديدة حقق المسلسل الأميركي الشهير "آي آر" أعلى نسب مشاهدة وحاز العديد من الجوائز المهمة. وكان بمثابة انطلاقة كبرى لنجم هوليود الأكثر شعبية جورج كلوني، من خلال تجسيده شخصية طبيب متفان في عمله.

اضافة اعلان

تجري أحداث ذلك العمل الفني المشوق في طوارئ مستشفى ما، حيث تعرض في كل حلقة قصصا قصيرة غير تقليدية الطرح، تحبس الأنفاس لشدة إتقانها، مشغولة باعتناء فائق لنماذج إنسانية مختلفة، تصل دائما وفق سيناريوهات مختلفة إلى قسم الطوارئ وهي على حافة الموت.

في هذا الفضاء شديد البياض والتعقيم والحيوية والاكتراث، يطرح المخرج أسئلته حول الحياة والموت والمشاعر الإنسانية المتضاربة والعلاقات المتشابكة والصراعات التي تصل ذروتها، لينتصر العمل في نهاية كل حلقة للحياة باعتبارها القيمة الإنسانية الكبرى، كل ذلك في فضاء قائم من أساسه على أقصى درجات التضامن والتعاطف.

رغم التقنيات المعقدة والطاقات الإنتاجية الضخمة والحيل الفنية البارعة في المسلسل، يظل ضمن الأعمال الدرامية التي تنتمي إلى الواقع وتعكس آلية عمل القطاع الطبي في أميركا، لكن إذا خطر ببالنا، من باب الجموح الفنتازي ليس إلا!، عقد مقارنة مع واقع أقسام الطوارئ في معظم مستشفياتنا، الخاصة منها قبل الحكومية، فإننا سنصنف العمل إياه ضمن دراما الخيال العلمي التي تعبر عن أشواق وتطلعات البشرية إلى منجزات خارقة في المستقبل البعيد جدا!

للأسف الأمر لدينا مختلف: حال وصول المريض إلى مدخل قسم الطوارئ تبدأ المعاناة الحقيقية، وكأن إدارات المستشفيات تفترض أنه سيهبط عليها بالهيلوكبتر، وبالتالي لا يأخذون ببالهم عند تشييد منشآتهم الضخمة التي يتوسعون فيها باستمرار، أهمية تخصيص مواقف سيارات كافية تنسجم وعدد الزوار والمرضى، مع ضرورة إفساح أمكنة إضافية  في قسم الطوارئ، كما يقتضي المنطق.

ما يحدث أن الأهل يضطرون إلى ركن مريضهم غير القادر على المشي خطوة أمام الباب، لحين العثور على مكان يركنون فيه السيارة، فلا يهرع بلهفة واكتراث، كما هو مفترض دراميا على الأقل، أي من موظفي الطوارئ، رغم الإعياء الشديد الواضح على المريض المنكوب.

وحين بلوغ مكتب موظف الاستقبال، المكتئب بالضرورة، يمتعض قليلا لظهورك المباغت ويجعلك تشعر بالذنب، فتوشك على الاعتذار بسبب واقع تدني الأجور، وقبل أن يوجه لك سؤالا حول وضعك الصحي، يكبس أزراره للتأكد من أنك لن تنصب على إدارة المستشفى، وأنك من ضمن المستفيدين من التأمين الصحي، وبالتالي فإن المستشفى ستحصل أتعابها من دون متاعب قانونية.

طبعا يستهلك هذا الجانب البيروقراطي وقتا كبيرا، فهو الأولوية الأساسية حسب اللوائح والتعليمات غير المكتوبة! قبل الشروع في إجراءات العلاج، وحين يحضر الطبيب المقيم، ويتأكد بأنك غير مشارف على الموت، وأن النزيف ليس شديدا، فإنك سوف تنتظر ما لا يقل عن ساعتين قبل أن يعاينك الاختصاصي، ويقرر إدخالك على الفور، هذا ما حدث بالضبط لمواطنة في إحدى المستشفيات الكبرى قبل أيام معدودات.

أقسمت تلك السيدة أن الطبيب المقيم سألها عن تقديرها لدرجة النزيف الذي تعاني منه، وكأن الأمر متوقف على رأيها الشخصي!

ليس ذلك فحسب بل ثبت في النموذج درجة حرارتها تقديريا، وعلى البركة من دون أن يستخدم ميزان الحرارة!

في ظل أجواء ليست شديدة التعقيم، خالية من عنصر التعاطف المفترض بداهة، ومن دون أي رعاية نفسية تذكر، يتحرك معظم العاملين في أكثر القطاعات حساسية وحاجة إلى اللمسة الإنسانية الرقيقة، يقدمون خدماتهم بآلية باردة، يجري ذلك في الوقت الذي نتباهى بأننا وصلنا إلى مرحلة متقدمة في هذا المجال، حيث أصبح الأردن واحة طبية ينشدها العرب من كل مكان.

ويكفي أن نستمع إلى قصص احتجاز مرضى عجزوا عن تسديد فواتير المستشفيات، وأن نستعيد قصة المريض الشهير الذي أنقذه عامل النظافة من الحفظ حيا في ثلاجة موتى أرسله إليها أطباء محترفون، إضافة إلى مسلسل الأخطاء الطبية الفادحة كي نعترف بمقدار تدهور الحال، حيث أصبح من أسوأ أشكال الاتجار بالبشر وعذاباتهم.

[email protected]