عاطفة وإبداع

د. رجائي الجاعوني

عندما بلغ الحنين مداه بالفتاة ستيفاني، ذات الثلاثة عشر ربيعاً، إلى أبيها؛ رائد الفضاء الذي مضى على غيابه عن المنزل عدة أشهر، من أجل القيام بمهمات علمية على متن المحطة الفضائية الدولية، بدأت تفكر بطريقة للاتصال معه وإشعاره بشوقها ومحبتها له.اضافة اعلان
ووصلت إلى مسامع من يديرون القاعدة الفضائية في هيوستن بالولايات المتحدة الأميركية، رغبة ستيفاني في التعبير عن اشتياقها بطريقة تفرح الأب الذي يعيش في كبسولة فضائية تدور حول الأرض، حيث يبعث من هناك بصور ونتائج تجارب يقوم بها مع زملائه الرواد المشاركين معه بالرحلة.
عمل الفكر، بمصاحبة الخيال والابتكار، مع الاستفسار عما تريده هذه الابنة المتعلقة بأبيها، والتي كانت إجابتها أنها تريد إرسال رسالة يراها والدها وهو في مركبته! وكتبت رسالتها مع رسم قلب في وسطها، وأودعتها عند علماء لا تعنيهم الأمور العاطفية كثيراً، بقدر ما يهدفون إلى خدمة الإنسانية بالعلم.
لكن حكمتهم وعدم إهمال أي شيء يخص الرحلات الفضائية، وإن كانت مسألة عاطفية، دفعاهم إلى إجراء اتصالات مع العالم لإبداء الرأي. فوجدت شركة "هونداي موتورز" طريقة مبتكرة خارجة عن المألوف لتحقيق أمنية ستيفاني! حقاً كما استنتج المفكر جمال الدين الافغاني: الأزمة تصنع الهمة.
وإن كان تعبير عاطفي من ابنة إلى أبيها، فلم لا يتحقق؟ فهو بحاجة لمن يقول له "أنا أحبك"، حتى يتجدد نشاطه، ويدخل الفرح قلبه، فتزداد الهمة والنشاط، ويكون الابداع. هي أشياء صغيرة غير ذات معنى بشكلها، لكنها مهمة بمضمونها عند أصحاب الفكر المستنير.
هكذا، انهمك العلماء في وضع خطة لإسعاد الفتاة، واختاروا الموقع وفقاً لعوامل جغرافية ومناخية. فكان في ولاية نيفادا الأميركية، على أرضية بحيرة ديلامار الجافة. وتم استخدام إحدى عشرة سيارة هونداي من نوع "جينيسس" لرسم الرسالة المختصرة والمعبرة التي كتبتها ستيفاني.
لقد استبدلوا إطارات السيارات بأخرى ذات نتوء خاص. وعبر المسارات التي ترسمها الإطارات من خلال سائقين ذوي احتراف عال، تمت كتابة الرسالة بمساحة تزيد مرة ونصف المرة عن مساحة متنزه "سنترال بارك" الشهير في نيويورك (5.55 كيلومتر مربع)، فاستحقت الدخول في موسوعة "غينيس" كأكبر صورة على الإطلاق ترسمها الإطارات!
وقد اجتمع لتنفيذ هذا المشروع الضخم الطموح، والذي كلف ربما ملايين الدولارات، خبراء من كوريا الجنوبية وأوروبا والولايات المتحدة.
إنه حقا عمل إبداعي عبقري طموح، لم يخطر ببال أحد، لولا عاطفة ستيفاني تجاه أبيها، والذي استطاع تصوير اللوحة من نافذة مركبته، حيث بدت واضحة تماما حافزة لسعادة الجميع.
السؤال المربك والمحير هنا: هل يجب أن تكون ثرياً لتحقيق ابداع حقيقي؟!
الجواب كان عند فئة من شباب غزة المحاصرة، الذين لم يستسلموا للواقع الأليم وتداعياته على سكان تلك البقعة الصغيرة جغرافياً.
إذ مؤخراً، استطاع شابان بناء قارب من قوارير بلاستيكية مستعملة بطول ثلاثة أمتار، وبكلفة خمسمائة دولار، تمكنوا من توفيرها بصعوبة بالغة. وقد استغرق بناء القارب حوالي ثلاثة أشهر، تحت شعار: "شيء من لا شيء".
هذا يعني أن الفقر لا يقف حائلاً أمام عقل مبدع، طالما وُجدت الإرادة مع الحلم والأمل والمثابرة. وها هو لويس باستور، أستاذ علم البكتيريا، يجيب عن سؤال مُستفز بقوله: لا تسألني عن لون بشرتي أو ديانتي؛ ولكن اسألني عن عذاباتي!
كما ضرب لنا الفنان العظيم مايكل أنجلو مثلا في تحمل العذاب أثناء رسم سقف كنيسة القديس بطرس. حيث كان ينسى نفسه لأيام وهو معلق على سقالة، ووجهه إلى الأعلى، منهمك برسم ما يزال حتى يومنا هذا يعتبر من أروع اللوحات. ولم يكن يهمه التصاق قميصه بجسده لساعات وأيام متتابعة بسبب عدم الاغتسال، فالمهم كان إتمام عمل كُلف به على أفضل وجه. وكان له ما أراد!
حقاً إن الابداع لا يأتي بالاسترخاء والمماطلة، بل بالعمل المضني والجهد المستمر. إنه عمل مشترك بين الحاجة، والتصميم، والخطوات، ثم تحمل الفشل حتى تحقيق النجاح.
حقق هذان الشابان الغزيان حُلما من خلال الإبداع، فأعانهما على القيام برحلات بحرية ترفيهية، مع صيد الأسماك التي ستوفر لهم ولعائلاتهم وجبات صحية تعينهم على إبداع آخر ربما!