عالم ما بعد التدخل الأميركي؟

من شبه المتفق عليه في الولايات المتحدة الأميركية، وبين المراقبين عن قرب، أنّ من أهم سمات عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما، هو تقليص التدخل في شؤون الدول الأخرى، وأزماتها بشكل نسبي، ولكنه واضح. في سورية مثلا، ورغم الحديث عن تدخل أميركي، فإنّ السؤال الأكبر الذي يثار، خصوصاً من دول عربية وأطراف سورية، لماذا هذا التدخل في حده الأدنى، مقارنة بما حدث في العراق أو أفغانستان، أو حتى الصومال في منتصف التسعينيات؟ الواقع أنّ لعدم التدخل الأميركي أو تقليصه تبعات، وأنّه يفتح الباب على سيناريوهات جديدة، عالمياً وعربياً.اضافة اعلان
وصل الأمر بمجلة "فورين أفيرز" (شؤون خارجية) أن تضع عنوان غلاف عددها المقبل (تشرين الثاني (نوفمبر)/ كانون الأول (ديسمبر)): "الشرق الأوسط ما بعد الأميركي". وتتساءل المجلة: "هل ستستمر واشنطن في الانسحاب من إدارة المنطقة بفعالية، أم أنّها ستطور شهية لتجديد التدخل؟ وكيف تؤدي التطورات إلى تغير في المواقف والاصطفافات؟".
لعل إحدى الإجابات بشأن الحذر الأميركي في التدخل، هو الفشل في التدخلات السابقة، بدءا من الصومال، مرورا بأفغانستان والعراق. ومؤخرا، مارس الرئيس أوباما النقد الذاتي، وهو يتحدث عن التدخل في ليبيا. فهو في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز"، قال إنّ التدخل كان صحيحاً "لمنع مجزرة"، لكن "عدم المتابعة على الأرض للتحول في ليبيا إلى سياسة أكثر ديمقراطية، ربما أكبر خيبة في السياسة الخارجية".
لقد ثبت بالوجه القاطع للأميركيين أنّ أكبر مشكلة تبدأ بعد تدخلهم وليس أثناءه؛ هذا ما ذهبت إليه هيلاري كلينتون في كتابها "خيارات صعبة"، عن سنواتها الأربع في وزارة الخارجية الأميركية، من حديث عن كيف تركت باكستان وأفغانستان بعد التدخل لدعم المجاهدين ضد السوفييت. وهذا ما فصّله فرانسيس فوكوياما، في كتابه "أميركا على تقاطع طرق"، والذي أوضح فيه كيف أنّ الأميركيين في حالتي العراق وأفغانستان وغيرهما، تمكنوا من تدمير أنظمة سياسية، ولكنهم يفتقرون للمهارة والمعرفة والقدرة على بناء ما هو بديل.
تعلم الأميركيون درس أنهم قد يتدخلون ويكون التدخل لصالح خصومهم، فهم من دعم "المجاهدين" في باكستان وأفغانستان، وارتد هؤلاء عليهم؛ وهم من فتح الطريق لإيران لمدّ نفوذها في العراق، وأراحتهم من خصمهم في أفغانستان "حركة طالبان". لذلك يحذرون من إزالة نظام بشار الأسد لصالح وضع أكثر خطورة لهم.
إلى ذلك، هناك بعد أيديولوجي أو نظري في الموضوع. وفي عدد "فورين أفيرز" سالف الذكر مراجعة لكتاب "مسألة التدخل.. جون ستيوارت مل ومسؤولية تقديم الحماية"، لكاتبه مايكل دويل. وهو يثير كل مسألة التدخل أو عدم التدخل في الدول الأخرى، كما تم نقاشها لمئات السنوات. وعملياً، إذا كان كثيرون يعتقدون بفكرة أن التدخل هو تعدٍ على سيادة دول أخرى، فإنّ المدرسة الواقعية، التي ينتمي إليها أوباما إلى حد ما، تقوم على عدم التدخل في شؤون الأنظمة الأخرى لأهداف مثل الديمقراطية والأيديولوجيا، وحصر التدخل العسكري المباشر في حماية المصالح الأمنية الملحة.
من غير الحتمي أن يستمر تقليص التدخل الأميركي في العالم، خصوصاً بعد أن يخرج أوباما من البيت الأبيض. لكن عدم التدخل الأميركي لا يعني أنّ الأمور تصبح متروكة للشعوب لتقرر. وسورية واليمن مثالان جيدان؛ فالدول العربية وإيران وروسيا لم تترك الساحة السورية من دون تدخل.
الحل الذي اقترحه فلاسفة النظرية الليبرالية في العلاقات الدولية، هو استبدال تدخل الدول في الدول الأخرى، بنظام أمن جماعي، يقوم على تدخل الأمم المتحدة لمصلحة السلم العالمي. لكن هذا الحل ما يزال أسير حقيقة أنّ العلاقات الدولية تحركها القوة وموازينها، وليس القانون الدولي والأنظمة؛ وأنّ البشر لم يصلوا لمرحلة قبول هكذا "حكومة عالمية".
المرحلة الراهنة فيها انكفاء إضافي للأمم المتحدة عن التدخل، وانكفاء أميركي قد يكون مؤقتا وقد يستمر. في المقابل، سنشهد تصاعدا في حالة تدخل قوى إقليمية في دول محيطة بها، وتدخلات من دول طامحة، مثل روسيا، حيث تستطيع.
يمكن لنا أن نتوقع أنماطا مختلفة وقواعد جديدة في عمليات تدخل الدول ببعضها مستقبلا، وليس اختفاء ظاهرة التدخل.