عالم من الأقنعة..!

معروف أن التطور المادي والاتجاه الحضري يأخذان الناس من البساطة إلى التعقيد. وهي رحلة لا يستطيع وقفها أحد، لأنها حتمية تاريخية. لكن طرق هذه الهجرة الجبرية تتباين في انبساطها وسلاستها، أو وعورتها وحدة منحنياتها. وتحدد مواصفات الطريق أي كائن هو الذي سيصل ليشكل مع الآخرين مجتمع "الحضر" -أو في النهاية شخصية الأمة التي يشكل "الحضريون" واجهتها "المستقرة"، فيما الآخرون الذين لم يلتحقوا بعد يُعتبرون متخلفين وفي خلفية الصورة.اضافة اعلان
انتقالة العرب من الفلاحة والبداوة إلى الحضارة، كانت أشبه بولادة قيصرية صعبة لحمل غير مكتمل. ولعل أجمل ما قرأتُ في ذلك، وصف عبدالرحمن منيف المبدع للانتقال الموجع من البداوة إلى الحضارة في رائعته "مدن الملح". وفيها، يبين بالتفصيل اليومي كيف وفر النفط ثروة مادية مفاجئة، أنجبت مدناً في الصحراء، تقطنها شخصيات غير متمدنة ومشوهة التكوين. وما تزال مظاهر تلك الولادة غير السوية حاضرة بقوة في معظم المنطقة العربية، حيث ما يزال التعامل مع السيارة رباعية الدفع وكأنها ناقة. ويختلف ذلك عن تحولات المجتمعات الغربية التي لم تكن هيّنة، لكنها كانت أكثر تدرجاً وانسيابية، فأنجبت تجانساً معقولاً بين المظهر المادي والجوهر الإنساني.
انتقال الشخصية العربية غير الطبيعي، حيث يشهد الفرد في فترة حياته طفرات متعاقبة تتحول به من شكل حياة بدائي تقريباً إلى الخبرة الحضرية بالغة التعقيد، ربما يكون أصدق تمثيل لفكرة "الصدمة الحضارية". ولا تُقاس آثار هذه الصدمة بزمن فردي قصير، بقدر ما تتخذ شكل اضطراب جماعي طويل الأمد، يحيط بأكثر من جيل. أما التعبيرات العملية عن ذلك، فهي إصابة الشخصية بنوبة فصام مقيمة، وانفصال بين الحقيقة الداخلية وبين المظهر السلوكي والفيزيائي. وفي أغلب الأحيان، نضبط أنفسنا ونحن نفعل بالضبط عكس ما نبطن ونرغب! وليست هذه خبرة فردية ولا متباعدة، ولا ينجو منها بسيط ولا مركب، ولا جاهل ولا مثقف، وإنما هي شيء أقرب إلى طبع وطريقة حياة: ثقافة! ولعل أبسط تعبير خطابي يأتي في النقد الذاتي المألوف جداً: "انظروا هؤلاء الأجانب! كُفار وما لهم دين، لكنهم صادقون أكثر منّا نحن أصحاب الدين!". أما التعبير السلوكي، فحدث ولا حرج! حتى إن صديقاً وجد فكرة انعدام الثقة واليقين في كثرة الاستوثاق والأختام على المعاملات الحكومية. قال إنهم يطالبونك هنا بتصديق كل شيء من كل مكان، لأنهم لا يصدقونك، ولأنهم لا يصدقون أنفسهم. في بلاد "الكفار" الصادقين، تكتب بياناتك وتوقع وينتهي الأمر، وأنت تعرف مغبّة تزوير الحقيقة -أو لا تكون بك حاجة إلى تزوير. لكن المفارقة في شرق العرب، هي أنك لا تكون أنت إذا كنت واضحاً، وتكون أنت تماماً حين تكون كائناً ذي طبقات؛ يعرض على السطح منها ما يلزم، حيث يجتهد بأنه يلزم.
قد يفكر المرء بأشياء -ومنطقة الأفكار لا تعترف بالحدود- لكنه لا يتمكن من التعبير عنها بالقول ولا بالفعل. الفكرة إما أن تكون "حراما"، أو "قلة أدب"، أو اعتداء على العرف، أو خيانة وطنية ومساسا بأمن الدولة، أو أن التعبير عنها سيجعل الشخص في عين الناس مارقاً، مجنوناً، زنديقاً، أو سخيفاً. وفي الحقيقة، لا حصر لعدد السلطات الرقابية التي تعمل على الفرد، والتي يُعملها هو على نفسه، حتى يجد القليل فقط مما يمكن إطلاع الآخرين عليه من حقيقته. على سبيل المثال، أتذكر كيف يقولون لك إذا ذهبت للتدريس في إحدى الجامعات: لا تناقش في محاضراتك المحرمات الثلاث: الدين، والجنس، والسياسة. ولو فكرت في كيف تقارب موضوعاتك في معزل كامل عن هذه الأقانيم، فستجهد في تجريد أطروحاتك من الروح والصلة بالحياة، خاصة إذا كنت تشتغل بالاجتماع والأدب والتاريخ والسياسة!
أتصور من كثرة اضطرار الناس إلى كبت معظم أفكارهم، أن زوجين يمكن أن يعيشا عمراً معاً من دون أن يعرف أي منهما حقيقة الآخر وجوهره، لأن كلا منهما يخاف أن "يفضح" نفسه أمام شريكه. وكذلك الحال في علاقات الناس في المجتمع؛ في الصداقة والعمل. وكأن الفرد يعيش ويموت وهو لا يتعامل مع أشخاص بحقيقتهم، وإنما مع عالَم من الأقنعة!