"عامان من العزلة".. إبحار طبي اقتصادي اجتماعي سياسي

عندما تقتني كتابًا لأحد الأطباء، ستخرج بنتيجة حتمية، لا تحتمل التأويل، بأنه «علمي بحت»، لكن يبدو أن مدير مركز الحسين للسرطان، الدكتور عاصم منصور، سيكون له السبق في تغيير هذه النظرية، فها هو يُبحر من خلال كتابه «عامان من العزلة.. مآلات الجائحة»، في جوانب طبية وصحية واقتصادية واجتماعية، لا بل وحتى سياسية.اضافة اعلان
منصور، يُقدم، نوعًا ما، سردا تاريخيا دقيقا لأول شخص، أُصيب بفيروس كورونا المستجد، بينما يتطرق، بطريقة سهلة، لأول الأطباء الدكتور «لي ويتلبانغ»، الذين حذروا من وجود الوباء وأخطاره.
وبطريقة فنية، يُسلط الضوء على عملية الإغلاق (الحظر)، التي تمت، واصفًا إياها بـ»ممتازة»، خصوصًا أن البشرية جمعاء حديثة بموضوع «الإغلاق»، فالناس لم تعهد، من قبل، مثل هذا الإجراء.
الكتاب، من خلال فصول سبعة، يمزج، بطريقة سلسة، ما بين الطب والصحة والاقتصاد والسياسة، بشكل رائع، إذ يُشير إلى التخوف من استغلال الرقابة الشديدة، التي فرضتها دول، ورافقها تضييق على حرية الرأي والتعبير، وكيف وجد البشر أنفسهم بذريعة السيطرة على الوباء، مضطرين إلى القبول بتقييد حركتهم، وبالتعرض لأشكال غير مسبوقة من الرقابة الإلكترونية، وانتهاك الخصوصية.
محليًا، يغمز الكاتب، من زاوية عدم استعداد الأردن بشكل جيد لمواجهة الجائحة، ولم يستفد من تأخر وصول الفيروس إليه، وتجارب الدول، التي ضربها الوباء مُبكرًا، ولا بكيفية التعامل مع المرض والمرضى، أو البروتوكولات التي تم اعتمادها في تلك الدول.
وينتقد الإجراءات، رغم أنه يصفها بـ»الصارمة»، من خلال فرض حظر شامل للتجول، الذي لم يصمد سوى 5 أيام، عازيًا سبب ذلك إلى احتياجات الناس، التي لم تستطع الحكومة تلبيتها.. ثم لجوء الدولة لإجراءات تخفيفية، لكن كـ»العادة تلاشت تدريجيًا، والسبب هو ملل الناس وتراخي قبضة الحكومة».
الكتاب يخرج بنتائج، أحلاها مر، تتمثل بأن النظام الصحي غير جاهز، وذلك مرتبط بشكل وثيق بنقص في أعداد الأسرة والكوادر الطبية المؤهلة، يُقابله استرخاء رسمي، فضلًا عن أن الجهات المعنية لم تكن على مستوى الحدث الخطير، ناهيك عن عدم مبالاة من المواطنين.
ولمواجهة الوباء، يُقدم منصور الحل، والذي يتمثل ببناء حالة متقدمة من الوعي المجتمعي، والعمل على سد الثغرات التي عانت منها مختلف الدول، والمتمثلة بنقص أدوات الوقاية الشخصية، ونقص الأسرة والمعدات الطبية، وضرورة توفير اللقاح، إذ إن إيقاف العدوى لن يحصل ما لم يتم تلقيح ثُلثي المواطنين.
ويُسلط الضوء على ثقة الناس بالعلم وبالمؤسسات العلمية، والتي أصبحت «مهزوزة»، جراء عدم التعامل بشفافية، ويؤكد أهمية استعادتها، فهذه الثقة يجب أن تبقى بعيدة عن التسييس والاستقطاب.
عربيًا، يُقدم منصور نصائح، ليس للأردن فقط، بل للدول العربية كافة، بُغية النهوض بصحة المواطن العربي، منها ضرورة البدء بإصلاحات شاملة لأنظمة التأمين الصحي، وبناء استراتيجيات صحية قابلة للتنفيذ، حتى أنه يدعو لإصلاحات ضرييبة تؤمن موارد مالية تضمن استدامة الأنظمة الصحية.
دوليًا، يُشيد الكتاب بإدارة الصين لملف الجائحة، مع ما رافقها من توظيف للتكنولوجيا والتطبيقات الصحية الذكية، وما حققته من نجاح، وفي الوقت نفسه لم يُنكر نجاح التجربة السويدية، التي اعتمدت نظرية «مناعة القطيع»، خاصة أن هذه الدولة سجلت أقل الإصابات بـ»كورونا»، مقارنة ببقية دول العالم.
ويُقدم مقارنة ما بين الإنفلونزا الإسبانية، التي تُعد الأشد عنفًا في تاريخ البشرية، حيث أودت بحياة 50 مليون إنسان، و»كورونا»، ليُخرج بنتيجة واحدة مفادها أن «العنصرية»، كانت سيدة الموقف وطاغية على إرهاصات الجائحتين.. فالأولى أُلصقت زورًا وبهتانًا بإسبانيا وتُنسب إليها، رغم أنها بريئة منها، والثانية تم إلصاقها بالصين، باعتبار أنها خرجت منها، ولم تقم بما يلزم لمنع انتشارها إلى بقية دول العالم.
ويتطرق الكاتب إلى المعركة مع «كورونا»، وكيف عرّت المفاهيم الخادعة والبراقة، التي كان العالم يتغنى بها، مثل: التضامن العالمي والتجارة الحرة والعولمة.. فأمام أول اختبار حقيقي لجأت الكثير من الدول المتقدمة والتي تُنادي بتلك الشعارات، إلى العزلة والتناحر على المواد الشحيحة، وإغلاق الحدود. بالإضافة إلى أنها كشفت عن «هشاشة» الأخلاق لدى مسؤولين أو رجال أعمال أو عاملين وأفراد، ففي الوقت الذي قدم فيه الكثير حياتهم أثناء تأدية الواجب، كان البعض يهرب، ومنهم من استغل الوضع لتحقيق مغانم مادية أو سياسية.
ويتساءل كيف أظهر الوباء الوجه الحقيقي «القبيح»، لدول متقدمة، التي لم تهتم بمرض نقص المناعة المُكتسب «الإيدز»، الذي قضى على 37 مليون إنسان، منهم 70 بالمائة يعيشون في القارة الإفريقية، بينما الآن تستنهض مخابرها وعلماءها ومراكزها البحثية لمواجهة «كورونا».. فقط لأن «النار» والخطر وصل إليها.
كما ينتقد الكتاب، دور منظمة الصحة العالمية، والذي يُعتبر «ضعيفًا»، ما يستوجب إعادة النظر في دور هذه المؤسسة، والآليات التي تعتمدها ووسائل تمويلها، بشكل يضمن استقلاليتها في صنع القرار بعيدًا عن التجاذبات السياسية للدول الأعضاء.
منصور، يُفرد لنظرية المؤامرة، سواء تلك التي تتعلق بالوباء نفسه أو باللقاح، حيزًا واسعًا من كتابه الذي يقع بـ280 صفحة من القطع الصغير، إذ كانت هناك فيديوهات «شككت» في نجاعة المطاعيم حصلت على عدد مشاهدات أكبر من تلك التي تُناقش الموضوع بشكل علمي.
ويربط بين المطاعيم والتسييس، وكيف غابت العدالة عن عملية توزيع اللقاحات، فعشر دول غنية استحوذت على 75 بالمئة من مجموع المطاعيم، بينما لم تحصل عشرات الدول الفقيرة، التي يقطنها أكثر من 1.5 مليار نسمة، على أي حصة من اللقاحات.
حتى الصحافة والإعلام، كان لهما نصيب في الكتاب، فقدما مدحًا للإعلام التقليدي، وتميزه بالموضوعية والحرفية في تقصي الأخبار ونشرها، على عكس بعض وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة ومواقع إلكترونية، التي تُتيح الفرصة لكل من «هب ودب» في بث أخبار دون رادع أو رقيب.
ورغم ذلك، يُشير إلى أن مواطن الخلل الأهم في التعامل مع الجائحة، والتي تكمن في إدارة الإعلام والتواصل مع المواطنين، وتعدد المراجع ومصادر المعلومات، إذ كانت متضاربة في أحيان، بينما تتصف بسوء تنسيق في أحيان أخرى، ما خلق أزمة ثقة حقيقية.. الكتاب يوجه دعوة للمعنيين بضرورة الابتعاد عن التعتيم والالتزام بالصدق والموضوعية والشفافية في نقل المعلومة.
منصور، يدق ناقوس الخطر، جراء خسائر وكلف ستترتب على كاهل المنظومة الصحية، نتيجة التركيز على «كورونا»، وإغفال جوانب صحية أخرى مهمة مثل: الأمراض المزمنة وغير السارية.
ليعود في الفصل السابع، ويتطرق مجددًا لسرد تاريخي آخر، وتحديدًا في الرابع عشر من نيسان 2021، وهو يوم الحج الهندوسي «كومبه ميلا» في الهند، والذي كان سببًا في تسجيل 350 ألف حالة إصابة بـ»كورونا» يوميًا، وما أدى ذلك إلى تطورات شهدها العالم، من قبيل اتخاذ الهند تدابير مشددة لمنع تصدير اللقاحات إلى دول العالم، خاصة النامية منها، الأمر الذي شكل تهديدًا لبرامج التطعيم العالمية، فالهند تُعتبر «صيدلية العالم»، لضخامة سوق الدواء فيها.