عامان من العزلة

«هنا في هذه المدينة لم يقتلونا بالرصاص، قتلونا بالقرارات» ترى هل تصلحُ هذه المقولة الشهيرة المقتبسة للروائي غابرييل غارسيا ماركيز لتعبّر عن حالة التخبط التي خبرناها في اتخاذ القرارات والاجراءات التي واجه بها العالم يائساً هذه الجائحة؟ وهل فعلاً تحوّل العالم كله إلى «قرية ماكوندو» تلك القرية الصغيرة المنعزلة التي ابتدعها ماركيز من نسج الخيال لتكون المكان الروائي الذي تدور فيه معظم أحداث روايته الأشهر «مئةُ عام من العزلة»؟ وهل يمثلُ الطفل المسخ الذي جاء ثمرة خطيئة علاقة غير شرعية وجلب اللعنة على ماكوندو تماماً كالواقع المسخ الذي ساد العالم على أعتاب الجائحة، والذي تمثّل في طغيان المادة والظلم وغياب العدالة وما نتج عنها من تباين واضح في تأثر الناس بالجائحة سواء من حيث نسبة الوفيات أو غياب العدالة في توزيع اللقاح أو في تحديد الأولوية لمن يعطى العلاج؟ ونتساءل هل كان هذا الفيروس بمثابة تلك الريح العاتية التي حلّت على (ماكوندو) بفعل اللعنة والتي كنستها عن بكرة أبيها وكان مصيرها المحتوم هو الفناء؟ ألم تكنس هذه الجائحة كثيرا من المسلّمات والقيم والمبادىء التي تربينا عليها أو ما اعتقدنا بأنها مسلمات اتسمت بها أدبياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية خلال العقود الماضية؟ فما الذي بقي لنتداوله من مصطلحات رنانة مثل التضامن العالمي، والتجارة الحرة والحدود المفتوحة والعدالة الاجتماعية، والرعاية الصحية الشاملة، والتي لم تلبث أن تداعت أمام أول اختبار حقيقي، فإذا بالدول تنكمش على نفسها وتغلق حدودها في وجه الآخر لتعمق العزلة التي خلقتها كورونا؟ أما مصطلح كالديمقراطية فقد أصبح موضع شك إثر فشل أدواتها في التّعامل مع الجائحة ممّا سهل على الكثيرين انتهاز الفرصة السانحة للانقضاض عليها مستغلين تنازل الناس عن بعض حقوقهم الأساسية في سبيل النجاة من الجائحة. فمنْ كان يتخيل يوماً ما أن يقبل الناس طوعاً بمصادرة حرياتهم، وحجرهم والتدخل في أدق خصوصياتهم من خلال المراقبة اللصيقة التي فرضتها الدول على تحركاتهم وسكناتهم بل تعدتها الى قياس مؤشراتهم الحيوية، وهو ما وصفه (يوفال هراري) بالانتقال من الرقابة عن بعد الى المراقبة تحت الجلد معيداً الى الأذهان رقابة الأخ الأكبر في رائعة جورج أورويل «1984»؟ وما الذي بقي من نظريات «دولة الحد الأدنى» وعصر ما بعد الدولة في خضم هذه الجائحة التي أعادت الاعتبار للدولة المركزية التي تنازل لها الناس طوعا أو كرها عن الكثير من بديهيات الحرية الشخصية وحرية التنقل والتعبير والتمثيل الدستوري؟ لقد كشفت هذه الجائحة هشاشة عالمنا وزيف انجازاتنا التي طالما تغنينا بها، عندما لم تستطع نظمنا الصّحيّة المتطورة، والتي انفقنا عليها تريليونات الدولارات مواجهة هذا المخلوق المتناهي في الصغر، ورأتنا نهرع الى التاريخ لنستعين بأدواته القديمة التي استخدمها الإنسان في مواجهة الأوبئة والجوائح السابقة، لنوظفها في مواجهة هذا المخلوق؛ مثل الالتزام بالتباعد الاجتماعي وتغطية الفم والأنف والحفاظ على النظافة الشخصية. كما كشفت بؤس الأنظمة السياسية التي تحكم العالم وما الفشل الذريع الذي اعترى الدولة الأعظم الولايات المتحدة والتخبط الذي شهدته إلاّ مثالاً صارخا على أن العالم يواجه أزمة قيادة حقيقية، وعلى الجانب الآخر كانت الهند التي تعتبر صيدلية العالم فقد انحدر بها سياسيون هواة مسكونون بالشعبوية الى الهاوية عندما تجاهلوا رأي العلم ورأوا في أصوات الناخبين الهندوس أولوية تتقدم على صحة المواطنين ، وكانت اللعنة أن أنتجوا للعالم متحور دلتا الذي خلف ملايين الضحايا. لكن رغم تلك الصورة القاتمة فقد كان العلم والبحث العلمي وفيين لتقاليدهما الراسخة فكان المطعوم هو الانجاز الطبي الأبرز والذي قد لا يكتفي بتغيير وجه الجائحة بل قد يتعدّاها الى تغيير خارطة الكثير من الأمراض خلال السنوات القليلة القادمة. • النص مقتبس من الكلمة التي قدمت من خلالها كتابي الذي يحمل العنوان نفسه.اضافة اعلان