عبد الحليم وشاي عراقي!

قلتُ للمحصِّل، في باص مقتصر على عشرين راكباً، كنتُ أولهم إنْ تمّ التعدادُ من يمين الباب الآليِّ: "أخبرني إنْ وصلنا إلى عمّان". كانَ عليَّ أن أستدير نصف استدارة برأسي الصغير كثيف الشعر، لأسمع جوابه جيّداً بأذني اليسرى، وسط ضوضاء الغناء، وضجيج المحرِّك المنهك، وثرثرة عائلة تتكدس في المقعد الخلفيِّ كأنواع مختلفة من الطيور الثقيلة، لكنني لم أسمع سوى صوت لخنق ضحكة قبيحة استقرّت على هيئة ابتسامة إشفاق، ثمّ إجابة مختصرة لتذكيري ربّما بأنني دون سنِّ الطيش: "احنا بعمّان".اضافة اعلان
لم تكن هذه البداية المثالية لفتى يكتب الشعر الغنائيّ، ويضع في عنقه قلادة من الفضة المغشوشة، ويظنُّ أنّ طالبات الثانوية العامة ينكسرن أمام بريق عينيه، وسلك أوّل طريق إلى "الرجولة"، وهذه "الرجولة" كنتُ متأكداً أنها لن تبدأ سوى من الطريق السريع بين الزرقاء وعمّان، وأضع في جيب بنطال الجينز الفضفاض ديناراً ورقياً، أصرفه في "متع" محرّمة على طالب السادس الابتدائيِّ، الذي تأخّر عامين عن الدراسة. وهذه "أول مرّة"، والمتعة أنْ ألتقي عمّان، كما ألتقي ابنة القرية خارجَ المدينة، ثم تصادفنا "عاصمة".
الطرق التي أمشيها لأول مرة من دون كفِّ وليِّ الأمر، كأنّها نساء يحتفلن برجولتي المبكّرة. كدتُ أنزلق على أرض "مجمع رغدان" اللزجة بخليط أمطار خفيفة وزيوت وعوادم باصات كبيرة وصغيرة، لكنّني توازنتُ، وواصلتُ المشي نحو الدرج الذي وارءه تنتظرني عمّان. مكتظ الدرج دائماً بالصاعدين إلى السيارات الصغيرة البيضاء التي توصل إلى تلال المدينة، أو النازلين إلى حيث كنتْ، وعلى أحد هامشَيْه محل مزدحم لبيع ساندويشات الفلافل، تذكّرتُ تحذيراً صارماً من والدي أن أشتري منه، وأقسَمَ أنهم يقلون الأقراص الخضراء بزيت السيارات.
نهاية الدرج أخيراً، كمن يدخل لأوّل مرة ملعب كرة القدم، يمرُّ من دهليز طويل شبه معتم، ثم تلفحه البهجة بالضوء آخر النفق. فتحت عمّان حضنها لطفل كان في "ثراة أعشابها". كما تقول أغنية المغني البدويِّ سيئ الحظِّ، فارس عوض، الذي توفي شاباً في طريقه إلى التلفزيون. لا أذكر بالطبع كيف تعلّمتُ المشي لأول مرة، لكنني لا أظنها كانت بالسوء الذي مشيتُ به أول خطوات لي في سنّ الطيش، من دون كفّ وليِّ أمر، بمرافقة "الحرية الشخصية"!
عند أكشاك بيع الكتب والمجلات الفنية، وقفتُ حرجاً أمام المتع المحرّمة، صار بإمكاني أن أقرأ بدقيقتين الأوراق الأولى من قصيدة "أشهد أن لا امرأة إلا أنتِ"، وحقيقة شبيه "صدام حسين"، حلمتُ بشرائها وإخفائها في طابق أرضيٍّ مخصّص لكتبي المدرسية بـ"نمليّة" المطبخ، لكنّ الدينار لن يكفي، سوى لشراء صورة لـ"عبد الحليم حافظ" وشاي عراقي، أسفل المدرّج الرومانيِّ. المدرّجُ ليس كما هو في أغنية فارس عوض قبل نشرة أخبار الثامنة، بالطبع يبدو أكبر! وأمشي على مهل الحبّ الأول، تصادفني مداخل لشوارع أخرى، هذا وسط البلد، إذن هناك، أطراف أخرى، وعمّان أخرى، ومثلَ قرويٍّ، أحبَّ قرويّة خارج مدينتيهما، أسألها: هل صادَفْتنا العاصمة؟