عدم اليقين السياسي يتعمّق في تونس

تونسيون يحتجون على سياسات حكومتهم في شباط (فبراير) الماضي - (أرشيفية)
تونسيون يحتجون على سياسات حكومتهم في شباط (فبراير) الماضي - (أرشيفية)

سارة فوير؛ غرانت روملي؛ بين فيشمان؛ وهارون زيلين* - (معهد واشنطن) 31/8/2021

اضافة اعلان

في 24 آب (أغسطس)، أعلنت الصفحة الرسمية للرئيس التونسي قيس سعيد على موقع "فيسبوك" أنه سيمدد "حتى إشعار آخر" الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها في الشهر السابق، عندما أقال رئيس الوزراء، وعلق مجلس نواب الشعب، وألغى الحصانة القانونية الممنوحة للمشرعين، وعين نفسه المدعي العام للبلاد. وتؤدي هذه الخطوة إلى تعميق حالة عدم اليقين المحيط بالديمقراطية الناشئة في تونس، التي زعزعتها أساساً الاحتجاجات المناهضة للحكومة، والصراعات الاقتصادية، والغضب واسع النطاق من تعامل الدولة مع أزمة "كوفيد - 19". وتسمح المادة 80 من دستور العام 2014 للرئيس التونسي باتخاذ "أي إجراءات تقتضيها الظروف الاستثنائية". ولكن مع وجود ثلاثة قيود رئيسية: يمكن اتخاذ الإجراءات لمدة 30 يوماً فقط (وهي فترة انتهت في 24 آب (أغسطس))، وتتطلب التشاور مع الفروع الأخرى للحكومة (وهو أمر يبدو أن سعيد لم يفعله)، ولا تمنح الرئيس صلاحية تعليق عمل مجلس نواب الشعب (وهو ما يتطلب مداولات تخوضها محكمة دستورية لم يتم تشكيلها بعد). وقادت هذه الشروط النقاد إلى استنتاج أن إعلان سعيد في 25 تموز (يوليو) كان بمثابة انقلاب. وأدى إعلانه الأخير إلى توسيع نطاق هذا النقد.
مناورة الرئيس
في البداية، حظيت مركزية السلطة التي فرضها سعيد بدعم محلي واسع النطاق، وإنما ليس بسبب تحمس التونسيين لطي صفحة الديمقراطية. وعلى الرغم من أن العديد من المواطنين يثنون على الحريات الفردية التي اكتسبوها، إلا أنهم يعتبرون أن تجربة البلاد مع التعددية السياسية التي استمرت لعقد من الزمن كانت فاشلة بسبب استمرار مشاكل الفساد، والشلل السياسي والخلل الاقتصادي. ويفاقم واقع تسجيل تونس حالياً أعلى معدل وفيات للفرد في العالم من جراء فيروس "كورونا" الشعور العام بالسخط. ولذلك، استقبلت معظم الكتل السياسية ومنظمات المجتمع المدني خطوة سلطة سعيد بقبول حذر، أو حتى بشعور بالابتهاج والغبطة -باستثناء حركة "النهضة"، الحزب الإسلامي المهيمن الذي يتهمه العديد من المواطنين بإعطاء الأولوية لبقائه على احتياجات ناخبيه.
منذ إعلانه في تموز (يوليو)، لم يقدم سعيد مساراً للمرحلة المقبلة، ولم يعين رئيساً جديدا للوزراء، أو يحدد أجندة اقتصادية، وبدلاً من ذلك ركز على ملاحقة رجال الأعمال والسياسيين الفاسدين المزعومين. وعلى غرار خطواته الأخرى، تحظى هذه الحملة ضد الفساد بدعم محلي واسع النطاق، لكن هدفها النهائي وفوائدها غير واضحة. وحتى الآن، تسببت الخطوات التي اتخذها بتجميد المفاوضات التي تجريها تونس لتأمين المساعدات من برنامج "صندوق النقد الدولي" البالغة 4 مليارات دولار، والضرورية لتسديد الديون المتفاقمة والحصول على تمويل دولي إضافي. ويعتقد سعيد على ما يبدو أنه يستطيع الاعتماد على الأصول المستردة وتدفق محتمل للدعم المالي من المملكة العربية السعودية بدلاً من تنفيذ الإصلاحات غير الشعبية التي فرضها "صندوق النقد الدولي"، والتي تجنبتها تونس خلال العقد الماضي.
وعلى صعيد حقوق الإنسان، اعتقلت الحكومة منتقدي الرئيس ومنعت السياسيين ورجال الأعمال والقضاة من السفر. ومع ذلك، قد تعمل عوامل أخرى لصالح المصالح السياسية لسعيد، من بينها الحملة الطبية المتسارعة المدعومة عسكرياً، التي زادت معدل التطعيم في البلاد بأكثر من الضعف في الأيام الثلاثين الماضية إلى أكثر من 15 بالمائة للأشخاص الذين تم تطعيمهم حتى الآن بصورة كاملة.
المصالح الأميركية والدعم الأميركي
خلال العقد الماضي، أثبتت تونس أنها حالة نادرة على الصعيد الإقليمي: فهي ديمقراطية عربية ليبرالية بصورة عامة منحت مواطنيها حريات واسعة، حتى بينما كانت تحاول احتواء تهديدات متطرفة وجهادية، وكل ذلك مع الحفاظ على توجهات السياسة الخارجية الصديقة للولايات المتحدة. وبالتالي، للولايات المتحدة مصلحة في رؤية البلد وهو يستقر ويوطد ديمقراطيته بدلاً من التراجع نحو الاستبداد. ولا يكتسي الشكل الدقيق للديمقراطية الناشئة في البلد -سواء كانت نظاماً رئاسياً أو برلمانياً- الأهمية نفسها كالحاجة إلى احترام المبادئ الأساسية للحكومة التمثيلية في إطار الدستور. ويبدو أن سعيد يسعى إلى إعادة اصطفاف جذرية من شأنها التخلص من الأحزاب السياسية ونقل معظم عمليات صنع القرار إلى المجالس المحلية وتفويضها إليها. وتحظى هذه الفكرة ببعض الجاذبية في صفوف المواطنين في الضواحي والمناطق المهملة منذ فترة طويلة في البلاد، لكن الرئيس لم يحدد خطة عملية لتنفيذها.
مهما كانت خطط سعيد، يجب أن تعمل واشنطن على ضمان عدم عودة تونس إلى حكم استبدادي كامل أو المزيد من عدم الاستقرار، الأمر الذي سيفتح المجال أمام الجهات الفاعلة السيئة لاستغلال الأوضاع في المنطقة. ويمكن للإغراءات الأميركية الهادئة، بل الحازمة، أن تقطع شوطاً طويلاً نحو هذه الغاية.
منذ ثورة 2011، قدمت الولايات المتحدة أكثر من 1.4 مليار دولار من المساعدات لتونس. واتخذ بعضها شكل "صناديق الدعم الاقتصادي" (45-89 مليون دولار سنوياً على مدى الأعوام الخمسة الماضية، مع طلب جديد بقيمة 85 مليون دولار في أول اقتراح للميزانية قدمته إدارة بايدن). كما وقعت واشنطن اتفاقية ثنائية مدتها خمسة أعوام لتوفير ما يصل إلى 335 مليون دولار لنمو القطاع الخاص. وفي 30 حزيران (يونيو)، وافقت "مؤسسة تحدي الألفية" الأميركية على عقد اتفاق لمدة خمسة أعوام بقيمة 500 مليون دولار لتطوير قطاعي المياه والنقل في تونس -على الرغم من أنه ما يزال من غير الواضح إلى أي مدى قد تؤدي تصرفات سعيد إلى تعريض الاتفاق للخطر، الأمر الذي يتطلب من الشركاء الالتزام بالحكم الرشيد والديمقراطية.
وتتلقى تونس أيضاً ملايين الدولارات سنوياً لبرامج الأمن الداخلي (على سبيل المثال، إضفاء الطابع المهني على وحدات مكافحة الإرهاب؛ وتنفيذ إصلاحات السجون)، في حين توطدت العلاقة الدفاعية الأوسع نطاقاً مع الولايات المتحدة بشكل كبير منذ العام 2011. وقبل الثورة، حرصت حكومتا بن علي وبورقيبة على إبقاء الجيش مؤسسة ضعيفة لمنع احتمال حدوث انقلاب. ولكن منذ ذلك الحين، عزز الجيش قدراته من خلال زيادة ميزانيته وتأمين الدعم الدولي، لا سيما من الولايات المتحدة. ووفقاً لـ"المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية"، ارتفع الإنفاق الدفاعي للبلاد من 666 مليون دولار في العام 2012 إلى 1.14 مليار دولار في العام 2020، مدعوماً جزئياً بما قيمته 65 إلى 95 مليون دولار في "التمويل العسكري الخارجي" السنوي من واشنطن على مدى الأعوام الخمسة الماضية. ويجعل ذلك تونس من الدول العشر الأولى المتلقية لمساعدات برنامج "التمويل العسكري الخارجي"، وتم طلب 85 مليون دولار أخرى للعام المالي 2022. وفي الوقت نفسه، صنفت واشنطن البلد كحليف رئيسي من خارج حلف "الناتو" في العام 2015.
وفيما يتعلق بعمليات الشراء المحددة، وافقت الولايات المتحدة على بيع 12 مروحية من طراز "يو إتش-60 أم بلاك هوك" (وتم بالفعل تسليم ثمان منها)، لدعم مهام مكافحة الإرهاب، فضلاً عن تسليم تونس مروحيات حربية من نوع "أو إتش-58 دي كيوا واريور" وطائرات عسكرية من نوع "سي-130". وبالفعل، يركز الجيش التونسي الآن بشكل أساسي على عمليات مكافحة الإرهاب وفرض الأمن على الحدود. ووفقاً لبعض التقارير تقدم "القوات الخاصة الأميركية" المشورة لوحدات مكافحة الإرهاب التابعة لها. وسيكون ضمان قدرة البلاد على مواصلة مثل هذه العمليات أمراً بالغ الأهمية لمنع عودة النشاط الإرهابي. وعلى الرغم من أن التعاون الأمني الأميركي مكن تونس من تقليص التهديد الجهادي على مدى الأعوام الستة الماضية، إلا أن البلد ما يزال يكافح ضد التأثيرات المتبقية من إحدى أكبر حركات التجنيد للمنظمات الإرهابية في العالم. وقد توفر التطورات السياسية الأخيرة الزخم للمنتسبين لتنطيمي القاعدة و"داعش" لاختبار تصميم سعيد، في حين يُفترض أن الجيش سيكون أقل استعداداً للعمليات الأمنية التقليدية إذا استمر سعيد في الاعتماد عليه في المهام المتعلقة بعمليات التطعيم ضد مرض كورونا.
الخيارات السياسية
قبل أزمة أفغانستان، حث كبار المسؤولين في إدارة بايدن سعيد، محقين، على إعادة "الديمقراطية البرلمانية" في أقرب وقت ممكن. وقام نائب مستشار الأمن القومي الأميركي، جون فاينر، ومساعد وزير الخارجية الأميركية بالنيابة، جوي هود، بإبلاغ هذه الرسالة شخصياً للمسؤولين في تونس في 13 آب (أغسطس). ومع ذلك، يشير الإعلان الأخير لسعيد إلى أنه يشعر بالجرأة الكافية لرفض الضغط الخارجي والحفاظ على حالة الطوارئ.
وعلى الرغم من الأزمات المتعددة التي ستُبقي الإدارة الأميركية منشغلة، يتعين عليها إبلاغ سعيد بأنها تهتم بمستقبل تونس وتتوقع منه أن يحافظ على التقدم الذي أحرزته البلاد بشق الأنفس فيما يتعلق بالحكومة التمثيلية وحقوق الإنسان. وبالنظر إلى أنه يفضل على ما يبدو إلغاء الأحزاب ونقل السلطة إلى المجالس البلدية، يجب على الإدارة الأميركية الاستمرار في التأكيد أن أي تغيير في النظام السياسي يجب أن يأتي من خلال عملية دستورية. ويجب تفويض السفير الأميركي، دونالد بلوم، بقيادة هذا الحوار وتنسيق الرسائل مع الشركاء الأوروبيين.
ومن المرجح أن يحرص سعيد على الحفاظ على علاقة إيجابية مع الولايات المتحدة، حتى بينما يحاول تعزيز سلطته. ويجدر بواشنطن إبلاغه -بشكل واضح وغير علني- بأنه لا يمكنه الحصول على كل شيء بسهولة، وأن الحصول على عقد "مؤسسة تحدي الألفية"، وضمانات القروض المستقبلية، والمفاوضات المثمرة مع "صندوق النقد الدولي" تعتمد على أفعاله. وفي الوقت نفسه، على الإدارة الأميركية تجنب أي تصريحات علنية انتقادية أو التهديد بالمساعدة العسكرية في هذا الوقت، إلا إذا بقيت أحكام السجن غير القانونية سارية أو إذا لم تُظهر تونس أي إشارات على إعادة العمل بالديمقراطية في الأشهر المقبلة.

*سارة فوير: خبيرة في السياسة والدين في شمال أفريقيا، وزميلة سوريف في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. غرانت روملي: زميل أقدم في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، حيث يتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية في الشرق الأوسط. بين فيشمان: مساعد باحث سابق في معهد واشنطن. هارون ي. زيلين: زميل "ريتشارد بورو" في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى حيث يتركز بحثه على الجماعات الجهادية العربية السنية في شمال أفريقيا وسورية، وعلى نزعة المقاتلين الأجانب والجهادية الإكترونية عبر الإنترنت.