عدو بريطانيا في الداخل

هارولد جيمس*

برينستون - تواجه الديمقراطية تحديات خطيرة في كل مكان. وتشهد الولايات المتحدة حملة انتخابات تمهيدية رئاسية تعتبر الأكثر غرابة حتى الآن، كما يهدد الشعبويين الدخلاء بالاٍطاحة بآليات ومؤسسات الأحزاب التقليدية. وتشل الأزمة الدستورية حركة البرازيل. ويعاني الأوروبيون من قلق سيقود إلى عجز ديمقراطي في الاتحاد الأوروبي. وفي المملكة المتحدة، تؤجج رؤية السيادة الوطنية المتجددة الحملة لترك الاتحاد الأوروبي.اضافة اعلان
لكن الجهود لاستعادة "سلطة الشعب" يمكن أن تنتهي بسهولة بزرع العداوَة بينَ الناس وتحريض بعضهم على بعض. ويشكل الاستفتاء القادم حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي مثالاً على ذلك.
يشكك المنظرون التقليديون للديمقراطية التمثيلية بشدة في الديمقراطية المباشرة. فالاستفتاءات، على وجه الخصوص، يمكن أن تحمل مخاطر جسيمة، حيث يتم اختزال أي قضية معقدة في اختيار ثنائي، ويصبح هذا الخيار وجودياً ومصدراً محتملاً لانقسامات عميقة على المدى الطويل. وهذا هو بالضبط ما يحدث في المملكة المتحدة اليوم.
ولكن لا مفر من التعقيدات في الحملة البريطانية. وسيظهر ذلك ببساطة من جديد في حالة عدم اليقين المتعلقة بالتصويت في كل حملة. ويعني بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي الإبقاء على حالة "شبه منفصلة"، وربما الحصول على مزيد من الإعفاءات وعدم الاشتراك في القواعد العامة –وهو المسار الذي يفضله رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون. ولكن البقاء سيعني ضمنياً محاولة معالجة مجموعة كبيرة من القضايا على أساس جماعي -من الأمن إلى اللاجئين إلى الاقتصاد– لأن المملكة المتحدة، كما أشارت الحملات المؤيدة للاتحاد الأوروبي، لن تستطيع إيجاد حل لها وحدها. وستكون الحصيلة، بالطبع، قدراً أكبر من التكامل.
سوف تكون الآثار المترتبة على التصويت لمغادرة الاتحاد الأوروبي ( "بريكست")، أكثر غموضاً. ماذا سيحدث إذا شرعت المملكة المتحدة في عملية الخروج لمدة عامين كما هو مقرر بموجب معاهدة لشبونة؟ هل باٍمكانها العمل في المنطقة الاقتصادية الأوروبية الحالية (ما يسمى بالحل النرويجي)؟ أم يجب عليها التقيد مجموعة من الاتفاقيات الثنائية ("الحل السويسري")؟ وماذا عن اقتراح مايكل غوف، وزير العدل في حكومة ديفيد كاميرون، الذي يتمثل في إنشاء منطقة للتجارة الحرة مع البوسنة وأوكرانيا وألبانيا ("النموذج الألباني")؟ هل ينبغي على المملكة المتحدة الدخول في مفاوضات من أجل شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي كشريك مستقل؟ وهل بامكان المملكة المتحدة وضع ثقتها في التقدم العالمي السريع لتفكيك الحواجز الجمركية؟
بذلك، لن يحل التصويت بنعم أو لا في الاستفتاء الذي سيجرى في 23 حزيران (يونيو) المقبل معظم المشكلات. والمعضلة أن الأمور لن تنتهي عند هذا الحد. كما أن التفاوض على تفاصيل علاقة بريطانيا مع أوروبا ستستغرق سنوات، أياً كانت النتيجة. لكن تخفيف الفجوة السياسية الناجمة عن الاستفتاء سوف يستغرق وقتا أطول.
بالنسبة لدول مثل سويسرا، التي تمارس الديمقراطية المباشرة الحقيقية، فإن الاستفتاءات لا تنتج فجوة سياسية عميقة. وتتحول الائتلافات الفائزة مع مرور الوقت وحسب القضايا المعروضة، لأن الاستفتاءات تنظم كثيراً هناك، مما يعني أن الانتخابات لا تترك انقسامات عميقة في أوساط الناخبين.
أما في الديمقراطيات التمثيلية مثل المملكة المتحدة (وتقريباً في كل الديمقراطيات الأخرى اليوم)، فيختار الناخبون القادة من أجل فحص الحجج المعقدة واجراء المفاوضات. وعندما يعتبر القرار حيوياً جداً بحيث لا يمكن الوثوق بالممثلين، يصبح المبدأ الذي يشكل أساس النظام السياسي بأكمله بمثابة التحدي. وعلاوة على ذلك، يتخذ النقاش اتجاها بالغ الأهمية مما يثير صراعا شديدا بين الجانبين. وبالفعل، تذكرنا الفجوة السياسية العميقة الناتجة عن استفتاء خروج بريطانيا بالحلقات السابقة التي هزت الولاءات السياسية وبددت الصداقات القديمة.
آخر حدث مشابه في المملكة المتحدة هو أزمة قناة السويس في العام 1956، والتي تحولت إلى نقاش حول دور بريطانيا في عالم ما بعد الحرب، ومدى اعتمادها على حسن النوايا الأميركية. وفي القرن التاسع عشر، كان هناك نقاش حاد حول التجارة الحرة في الحبوب، والتي بلغت ذروتها بإلغاء رئيس الوزراء روبرت بيل قوانين الذرة. وبعد خمسين سنة، انقسمت فرنسا بسبب متابعة النيابة العامة لقائد الجيش ألفريد دريفوس بتهمة الخيانة.
في معظم هذه النقاشات السياسية الحاسمة، قام كل جانب بتجريح الآخر، مدعياً أن الخصم يقوده الحقد أو الجهل. والشيء نفسه يحدث في بريطانيا اليوم.
قد يتم الاستهزاء بالبريطانيين الذين يريدون البقاء في الاتحاد الأوروبي ويصنفون كعبيد لبيروقراطية تكنوقراطية دولية غير خاضعة للمساءلة، أو كخونة لبلادهم، إذ لا يمكنهم الفوز إلا من خلال إطلاق "مشروع الخوف". وفي الوقت نفسه، يقوم المدافعون عن استمرار عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بوصف خصومهم بالجاهلين، غير المتعلمين، وبكونهم إنجليز لا يعرفون شيئاً، يقودهم الغضب والخوف. وبعبارة أخرى، يرى كل طرف أن الطرف الآخر غير قادر على مصالحة المشاعر مع التفكير العقلاني.
والحقيقة أن جميع الأسئلة المتعلقة بالاتحاد الأوروبي، زالتي تحفز الغضب والخوف بين البريطانيين اليوم، تمكن معالجتها على أساس كل حالة على حدة. ورداً على المخاوف التي تتمثل في المهاجرين الذين يشكلون ضغطاً على التعليم، والإسكان، أو النقل، فيمكن لذلك أن يكون دافعاً لبناء مدارس أفضل، وللمزيد من التخطيط، أو زيادة الاستثمار في البنية التحتية. وفي جميع هذه المجالات، يكون الممثلون المنتخبون في وضع جيد للفصل في المفاضلة المطلوبة.
باللجوء إلى آليات الديمقراطية المباشرة، استطاعت بريطانيا أن تعزز قدرتها على مواجهة التحديات التي تواجهها بطريقة تعزز الاستقرار. ويدفع موقف "كل شيء أو لا شيء" المواطنين على نحو متزايد نحو رؤية السياسة من منظور الفيلسوف القانوني الألماني (وعضو الحزب النازي) كارل شميت/ الذي يعتبر التمييز بين الصديق والعدو أمراً لا مفر منه -بين أولئك الذي يكون المرء على استعداد في نهاية المطاف إلى الموت من أجلهم وأولئك الذي يكون المرء على استعداد لقتلهم.
ولا يمكن التخلص من هذه الانقسامات إلا مع مرور (الكثير من) الوقت. ويمكنها أن تدوم لما بعد الظروف التي أدت إليها، وغالباً ما تأخذ عدة أجيال قبل أن تتلاشى. وعلى سبيل المثال، ما تزال أوروبا المتوسطية تعانى من النقاشات حول سلطة الكنيسة الكاثوليكية، كما تواصل أميركا الجنوبية تحمل آثار الاسترقاق والحرب الأهلية. والنتيجة هي التوترات الاجتماعية وانسداد الأفق السياسي وعدم القدرة على الإصلاح أو التحديث.
من خلال الدعوة إلى الاستفتاء، أشعلت بريطانيا صراعاً عميقاً وأساسياً في المجال السياسي. وهي تواجه الآن خطراً حقيقياً، وقد تصبح مجتمعاً منقسماً ومتأزماً بازدياد.

*أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وزميل رفيع في مركز الحكم والابتكار الدوليين.
*خاص بـ "الغد"، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".