عزلة الفرد والهروب إلى الداخل

مناسبتان متعاقبتان أضاءتا مسألة الاتصال والانفصال في التفاعل المجتمعي المحلي: الانتخابات النيابية، والعيد. وكانت التجليات الأبرز فيهما: الميل إلى العزوف عن المشاركة في النشاط الجمعي، ورغبة الناس في العزلة، وضيقهم بإملاءات الحدث العام الذي أصبح عبئاً لأنه يفرض على الفرد الانخراط في الحراك السياسي أو التواصل الاجتماعي.

اضافة اعلان

وعزلة الفرد ظاهرة متعلقة بسلوك الفرد الاجتماعي من حيث الأساس. وعلى المستوى النظري، يمكن القول بأن ميل الفرد إلى العزلة كان الأصل. لكن الاجتماع، بمعنى تشبيك علاقات مع الجماعة البشرية، جاء لغاية عملية هي إدامة الوجود الفردي وتقاسم الأدوار في المقام الأول. وبالتدريج، أصبح الاجتماع هو قاعدة السلوك البشري. وأصبح تزايد عزلة الأفراد يحمل أعراض الأزمة عندما يصبح ظاهرة. ويبدو أن هذه الظاهرة تتفاقم بفعل عاملين أساسيين: التمدن؛ والأزمات العامة.

يجلب زحف المدنية في ركابه متعلقات حتمية، منها إلحاح الانهماك في العمل؛ وسرعة الإيقاع، وارتفاع قيمة الوقت؛ وضغط المطالب المادية؛ وشدة التنافس. وينتج عن ذلك إصابة الفرد بالإجهاد في محاولته العثور لنفسه على "حيز"، سواء في سوق الإنتاج أو في الهيكل الاجتماعي. وفي العادة، تضغط المدينة على الفرد بطريقة تختصر حيزه باطراد لصالح آخرين من الساعين إلى توسيع حيزهم الخاص. وقد تحدث كثيرون عن الهيكل المعماري للمدينة، والذي يحشر الناس في "علب" متراكبة، في بيئة مليئة بعوامل التلويث البصري والسمعي. لكنه يبدو أن هذا الاكتظاظ المعماري يمتد إلى الداخل، فيضيّق الصدر وحيز الروح أيضاً. وينجم عن ذلك تصاعد عوارض التوتر والقلق والانسحاب الاجتماعي.

في المجتمعات الغربية، أصبحت مظاهر عزلة الفرد والارتكاس على الداخل بفعل المدنية شيئاً اعتيادياً، لأن تلك المجتمعات تجاوزت تجربة الانتقال من الثقافة الريفية إلى المدنية منذ بعض الوقت، وتأقلمت الأجيال الجديدة مع نتائجها. أما في مجتمعاتنا النامية، فقد شهد معظمنا تحولات مديرة للرأس خلال فترة قصيرة، في البنى الاجتماعية والسلوكية والمعمارية والأخلاقية. وقد جاءنا التمدن على شكل طفرة في النصف الثاني من القرن الماضي بسبب مد النفط والتحولات الاقتصادية وارتفاع منسوب التعليم والانفتاح النسبي على معطيات الثقافة العالمية. ولأن الانتقالة لم تكن تدريجية، نجم نوع من الفصام بين شخصيتين اجتماعيتين في الفرد نفسه: مخلفات الثقافة الريفية والتركيبة التقليدية من جهة، والكم الهائل من المفاهيم الجذابة الجديدة، على المستويات المعرفية والسلوكية والنظرة العالمية. وأصبح ذلك الفصام ظاهراً في تركيبة المدينة الواحدة التي تعرض تبايناً في السلوك الاجتماعي. وسأذكر مثالين من التجربة الشخصية:

في عمان الشرقية مثلاً، ثمة بقايا للترابط الاجتماعي التقليدي وبعض الدفء. وهناك ظاهرة "الفضول" أيضاً، فإذا شاهد الجيران تجمع زوار عندك، فإنهم يحاولون معرفة السبب ويميلون إلى مشاركتك مناسبتك.. وفي المقابل، حدث حين توفيت والدتي بعد أن انتقلت إلى عمان الغربية، أنني كنت أسكن بناية تتكون من 24 شقة، ولم يعزّني أحد من الجيران لأن أحداً منهم لم يعرف بما حدث عندي ببساطة. وفي حادثة أخرى في نفس المكان، تطوعت للمساعدة -بعد تردد حتى لا أبدو حشرياً- فحملت أحد الجيران ليلاً إلى المستشفى بعد صراخ صعد من شقته، وبقيت معه حتى عولج من أزمة قلبية عارضة وأعدته إلى البيت. وفي الأيام التالية، لم يشكرني الجار، وظل يمر بي يومياً، فلا يلقي السلام.

أما عن أثر الأزمات في تعميق العزلة، فقد تحدثت الأدبيات عن إصابة الذات الفردية بالتشويه في أوروبا ما بعد الحربين. ومع أنه يفترض في الأزمات أن تجمع الناس على قاعدة أن التشارك يقلل حجم الضغط على الفرد، فإن ذلك يتطلب وجود مشروع جمعي وإحساس بالجدوى. وحين ييأس الناس من تحقق انفراج، فإنهم ينفضّون ويعود كل واحد إلى نفسه وينشغل بمشروعه الخاص. وفي الشأن المحلي، تمكن إحالة العزوف عن المشاركة في الانتخابات مثلاً إلى هذا العامل بالذات، حيث تتعمق الأزمات السياسية والاقتصادية ويغيب المشروع الجمعي والأطر، ويعز احتمال تحقيق انفراج في الأحوال المباشرة بسبب تراكم الخيبات.

في العموم، يعمل اتساع حيز الفرد، بمعنى حل جزء من معضلاته الوجودية والمادية، على فتح علاقاته مع حركة المجتمع بكل مناطقها.

[email protected]