عسكر وحرامية

في الذاكرة ما تزال بقايا صور من حقبة الطفولة، تحاول جاهدة الصمود في حيّز ضيق من خبايا صور كثيرة.

أتذكر كيف كان شكل ألعابنا القليلة التي لم نحسن "تكثيرها" على مدار عقود في القرية الصغيرة، بسبب ضيق مكان التجربة، وعدم الإطلال على العالم الخارجي.

اضافة اعلان

"شرطة وحرامية"، كانت واحدة من الألعاب المفضلة لدى جميعنا. كنا نعمد إلى تقسيم أنفسنا إلى مجموعتين؛ واحدة لـ"الحرامية"، وهم اللصوص المتخصصين بسرقة الناس والممتلكات، وأخرى لرجال الشرطة الذين سوف يحاولون جهدهم استرجاع المسروقات، وإيداع اللصوص في غياهب السجون.

كنا نختار أكثرنا قسوة لتمثيل دور الشرطة.. في الوقت الذي يكون فيه "الحرامية" أشخاصا ودودين وطيبين.

كان الشرطة، في ألعابنا، يفعلون كل "الموبقات"، ويظهرون كل القسوة، ربما ليستحقوا اللقب الذي خُلِع عليهم.

عاطفتنا كانت تتجه دوما نحو "الحرامية". كنا ندعو لهم أن يتمكنوا من الإفلات من قبضة رجال الشرطة الغليظين، كيلا يكابدوا معاناة لا يعلمها إلا الله ومخيلة أولئك الذين يتلبسون دورهم كأفرادٍ أمنيين يحاولون إثبات وجودهم بشتى السبل.

إلا أن الواقع كان دائما يفرض اشتراطاته حتى على لعب الأطفال، فالجريمة لا يمكن أن يطول انتظار حلها، و"الحرامية" لا بدّ أن يذهبوا إلى خلف القضبان.

تلك حقبة مضت منذ زمن بعيد، إلا أن أصول اللعبة ما تزال قائمة حتى اليوم، فعلى مدار سني حياتي، لم ألاحظ ولو مرة واحدة أن الدولة الأردنية حاولت أن تغيّر من الصورة النمطية التي ارتسمت في الأذهان عن الشرطة والأمن كقوة قمع، لا كقوةٍ محبة للعدل وتحقيقه.

لم تحاول أن تجعل رجل الأمن يبدو إنسانا قريبا من الناس، يحاول تفهم حاجاتهم، ومدّ يد العون لهم في كل الملمّات.

حتى إن اللعبة اختلفت قليلا، فبدل أن تكون بين "شرطة وحرامية"، أصبحت اليوم بين "شرطة وشعب"، وذلك بسبب تصرفات نفر قليل من رجال الأمن الذين لم يدركوا حدود مسؤولياتهم، واعتقدوا لوهلة أنهم فوق جميع التشريعات والقوانين، ليمنحوا بالتالي صورة سالبة عن رجل الأمن والتزامه.

جميعنا متيقنون من أننا لا يمكن لنا الاستغناء عن رجال أمن يسهرون لتنام عيوننا باطمئنان، ولكننا نرفض أن تبقى صورة رجل الأمن مأخوذة من زمن الفرسان الذين كانوا يذرعون ليل القرى والبوادي قبل أكثر من قرن من الزمن، فرحين بامتهان كرامة الناس، ساحلين إياهم خلف أحصنتهم على مرأى من زوجاتهم وأبنائهم.

ندرك أهمية رجل الأمن في الحياة الحديثة، وكيف أنه أحد الروافع الأساسية لأي استقرار وتنمية حقيقية، ولكن أرجوكم، احرصوا أن تفهموا حاجاتنا كبشر، خصوصا عندما لا نكون أصحاب جناية.

[email protected]