عصا المؤدب!

د. عصر محمد النصر*

ما تزال النفس تدعو صاحبها إلى حيث يميل هواها؛ إذ ما من نفس إلا وفيها قدر من الميل والهوى، وهو من طبيعتها، فلا تقف على حد الاستقامة والتوسط الشرعي إلا بشيء من المجاهدة: "حتّى يكونَ هواهُ تَبَعًا لما جِئت به". اضافة اعلان
فإخراج النفس من داعي الهوى، هو من المقاصد الشرعية العظيمة. ولا يتحقق مثل هذا المقصد إلا بتعظيم الشرع في النفس، حتى يكون مطلبا لها؛ فتقف عند حدوده راضية مسلمة: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (النساء، الآية 65).
ولما كان الحق مطلبا تسعى له النفس وتحفد، فقد جعل له الشرع أسبابا معينات على بلوغه. فبذل الجهد، واستفراغ الوسع، وسعة الطلب، وتجرد النفس، بعد اللجوء إلى الله تعالى، هي من أعظم ما يعين على بلوغ الحق. ولا يبقى من ذلك إلا أقدار تجري بأمر الله تعالى؛ فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره، فما شاء سبحانه كان، وما لم يشأ لم يكن، جفت بذلك الأقلام وطويت الصحف. وقد تقرر أن الله تعالى لا يخيب سعي من أحسن عملا، ولا يرد قلبا صدق وعده وآمن به، ولا يعذب جسدا أقبل بخبيئة صالحة قد ادخرها ليوم المعاد.
من خفايا الهوى، وعنده يعظم البلاء وتمتحن النفس على عتبات الصدق، إذا اختلط بالحق حتى يخرج مخرجه، ويظهر بمظهره. وهذا باب البدعة الذي ولج منه أربابها، فاستعصت عليهم الهداية. ذلك "أن المبتدع لا بد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع، ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع، فصار هواه مقصودا بدليل شرعي في زعمه، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بجنس ما يستمسك به، وهو الدليل الشرعي في الجملة" (الاعتصام 1/ 216).
رضا الإنسان عن نفسه، واقتناعه بعلمه، محنة عظيمة ابتلي بها كثير من الصالحين، وهي أولى درجات الخطأ، بل هي آفة كثير من الناس؛ فما ثبت صاحب معتقد ولا استقر رأي عند صاحبه، إلا بالرضا عن النفس. وهذا داء إن استحكم جعل النفس على مفترق طرق يصعب بعده الرجوع، فمن الأدواء ما لا يبلغه إلا لطف العليم الخبير. ومن هنا تعظم حاجة النفس إلى باريها سبحانه. فطلب الهداية لا ينقطع ما دامت الروح في الجسد، وما دام القلب ينبض "فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين: انفتح له طريق الهدى" (الفتوى الحموية، 549).
وللعلم مسالك متبوعة وطرق مسبورة، يقف على حدودها الذكي والبليد، فلا يُدخر الشرع عن أحد، ولا لأحد في جمعه اختصاص. وأعظم ما يبلغه الناظر في هذه الطريق، تحقيق مذاهب السلف؛ فيقف على اتفاقهم واختلافهم وطرائق بحثهم. وهنا يتفاضل الناس؛ فعلى قدر تحقيق مذاهبهم واستلهام طرائقهم وروحهم في التعامل مع نصوص الشرع ومعالجتها، ينبل العلم وصاحبه. فهي طرائق مملوءةٌ تعظيما ومهابة وتوقيرا، تُعامل الشرع بما يليق به. فالتعظيم لا يستقيم لصاحبه بمجرد ما في القلب من ذلك، بل ثمة أمر في غاية الأهمية يتعلق بطريقة البحث والنظر. فقد تقرر أن لكل علم ما يختص به في هذا الباب "فالدقائق الطبيعية شيء والحقائق الدينية شيء آخر، فمن ظن الطريق إلى تلك طريقا إلى هذه فقد ضل ضلالاً بعيدًا" (الأنوار الكاشفة، ص7).
فمنهج البحث والنظر جزء مهم من العلم، حيث ينشأ في بيئته ويتأثر بقيمه وغايته. وإنما تنقد المناهج وتقيم العلوم، كل العلوم، بقواعد الشرع وأدبياته. وهذا يعود لعلو الإسلام وعلومه، فينقد به ولا ينتقد هو بغيره. وهذا أصل تجب العناية به. والغفلة عنه توقع في مشكلات عظيمة. وعليه، فإن البحث والنظر في المسائل الشرعية له باب تعلوه مهابة وفيه عظمة، فلا ينبغي الولوج إليه بمجرد توقد الذهن، وزهو النفس ولو بلغت ما بلغت. فمن المسائل مسائل كبيرة وقف على حدودها عظماء، وفنيت في بحثها أعمار.
كان طالب العلم فيما مضى من الزمان يُصنع صناعة، حيث تترتب علومه ومعارفه بما يتناسب وسنه ومقدار تحصيله؛ بل جُعل لبداية الطلب مرحلة عمرية تميز كل إقليم بما يراه أهل العلم فيه مناسبا. ومما أدركنا عليه أهل العلم، توصية طلبتهم بما يقرأون، وينهون عن أشياء، نصيحة لله وتأدية للأمانة. فما يزال العلم منذ بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ينقل عبر هذه السلسلة المباركة. وإنما أوتي العلم وأهله من ضعف هذه الرابطة المباركة، إذ كان انتظامها انتظاما للإيمان والعمل، ووقاية من الأخطاء بإذن الله. فمعقد الحق في البحث وبلوغ الصواب، يكون بالمقارنة والمباحثة، ومرد الخطأ يكون بنقص هذين الأمرين، حيث ينظر الباحث "نظرا أولا فيراه صوابا، ولا ينظر فيما يناقضه، ولم يباحث العلماء ليبينوا له خطأه" (صيد الخاطر، 351). حيث يكون هذا الخطأ سببا في التفرد وشذوذ الآراء، بما يستدعي الحسبة في بيان الخطأ. وهنا ترفع عصا المؤدب، فتقرع أبواب القلب دافعة لغفلة أصابت صاحبها، ومحركة لخير قد أضعفته شهوة العلم والرضا عن النفس. وبذلك يصان الشرع ويحفظ.
فكل مكانة هي دون مكانة الشرع، وكل منزلة دون منزلته. وإنما يوصى الناصح بالعدل والإنصاف، وتحري الحق والحرص عليه، بعيدا عن هوى النفس وشهواتها.

*كاتب أردني