“على أمل اللقاء غداً”!

كنتُ أودُّ العيشَ “حياةً مديدةً”، أكسرُ فيها احتكارَ اليابانيين، لأعلى معدَّل للأعمار؛ لكنَّ تقريراً طبياً موثوقاً أفادَ أنَّ “الإدمانَ” على تناول “البطاطا المقلية” بزيوتٍ مكرَّرَة، و”مُهَدْرَجَةٍ”، سيجعَلُني في الرابعة والأربعين، معرَّضاً لأمراض القلب، من النوع الحادِّ الذي لا يتيحُ للمرضى فرصة “التوبة الغذائية” المتأخِّرة؛ فالتقريرُ قال بوضوح إنَّ تناول حبَّةٍ واحدة يومياً، يُنقصُ العمرَ يوماً واحداً؛ وهكذا سأنتهي في العمر الذي يبدأ به اليابانيون حياتهم المديدة!اضافة اعلان
كنتُ أودُّ؛ لكنَّني أصبحتُ أكثرَ واقعيَّةً، فأدركتُ مبكراً أنَّني لن أتجاوزَ بأسخى طموحٍ معدَّل أعمار سكان “هونغ كونغ” الصاخبة، وهو أملٌ رخيٌّ تبدَّدَ سريعاً، في التاسعة صباحاً، عندما قرأت المذيعة باردة الملامح الفقرة الطبية، التي حذّرت، بلهجَةٍ متصاعدَةٍ، من أنَّ “الاعتياد” على تناول “الشاورما”، بصنفيها، أحمر (الذي أحبُّه) وأبيض (الذي أعشقه)، لعامين قمريَّيْن، يسدُّ منافذ الشرايين التي لا تقوى على سدِّها كلُّ السجائر التي دخنتُها “سراً وعلانية”، منذ أول سيجارة تحت درج المنزل الأول!
تواضعتُ بالقبول المُرْغم بما يعيشه الاسكندنافيون من عُمْرٍ مديدٍ “نسبياً”، لكنَّ الإذاعة الأجنبية أكدت أنَّ تناولَ المشروبات الغازية سببٌ رئيسي لأمراض السمنة، التي تعطبُ الجهاز التنفسي، ما يجعل احتمال الوفاة قائماً بين نشرة وأخرى، فتواضعتُ أكثر، لكنَّ الإذاعة المحلية حذَّرَتْني بشكل شخصي هامس، كما لو كانت أمِّي التي لم تلدْني، من مشروبات الطاقة، أكدت بثقة لا شكَّ فيها، أنها تجعلني أكثر عرضة للسكتات المفاجئة؛ وقد أنجو، فأصابُ بالهلوسة، وعندها تقتضي كرامتي أنْ يقصر العمر “نسيباً”!
الوجبات السريعة تؤدِّي إلى موتٍ بطيءٍ، والثقيلة قد تسبِّبُ الموت السريع، السكاكر “مسرطنة”، و”المكسَّرات” تكوِّنُ الحصى، “الحلو” وصفة مُرَّةٌ للسكري، والمرُّ يحلو له ضرب الجهاز العصبي، “المعلَّب” مشكوك في أمره، والطازج مُهَرْمنٌ، كثرة الماءِ ترفعُ ضغط الدم، وكثرة الهواء تصلِّبُ الشرايين، وكثير من الشمس يضعف النظر، وكثير من القمر يذهب تماماً بالبصر؛ كنتُ أودُّ أن أعيشَ “حياةً مديدةً”، لكنَّ مذيعة النشرة الصحية “استودعَتْني في أمان الله” “على أمل اللقاء غداً”!
ولستُ على ثقةٍ من مجيء الغد؛ فقد أهملتُ نظافتي الشخصية لزمن، لهذا سأصابُ حتماً بأمراضٍ مخجلة، يؤدِّي مجموعها إلى “موت سريري”، وقد أفرطتُ بالنظافة الشخصية في زمن آخر، لهذا سيصيبني بلا شك “ألزهايمر”، في السرير ذاته، ولا أمل فيما يبدو بمجيء بعد غد؛ فأحياناً أشعر أنني من قصار القامة المهيئين للموت بضربة قلبٍ خاطفة، وأحياناً أبدو أكثر طولاً، وأسوأ حظاً بالإصابة بـ”قصور القلب”. لا أملَ أبداً؛ فدائماً أكون من “المتوسطين” الذين أصابتهم “فوبيا” الطول، بأعراض “الوسواس القهري” ونتائجه القاتلة!
أخشى ما يخشاه البدناء من موتٍ غافل، وأفزع مما يفزعُ النحفاء بعد جراحة طارئة، أقلقُ لقلق أصحاب العيون الواسعة من شرِّ الحسد إذا قتل، وأجزع من نبوءة الوفاة المبكرة لأصحاب العيون الضيقة. أهربُ من “قهر الوسواس”، فأفتحُ التلفزيون، أجلس ساعة واحدةً بمتابعة فيلم شيِّقٍ لا ينتهي بموت البطل، فأبتهج قليلاً حتى أقرأ في الشريط المتحرِّك أن الجلوس لساعة واحدة أمام التلفزيون يُنقصُ العمر اثنتين وعشرين دقيقة. أطفئُ الضوءَ يائساً، وأحاولُ النومَ؛ أو أجرِّبه!
كنتُ أودُّ العيشَ “حياةً مديدةً”، أكسر بها شوكة اليابانيين الرفيعة، لكنني الآن امرؤ عرفَ متأخِّراً قدرَ نفسه، وأدركَ أنَّ نجاته من حرب إقليمية، وأخرى أهلية، وثالثة عشائرية، ليست أكثر من “مصادفات سعيدة”، لن تمدَّني بأكثر من عمر الأفارقة؛ ففي الأربعين إنْ لم تقتلني “البدانة”، و”النحافة”، و”الطول” و”القصر”، و”الوجبات السريعة”، و”الثقيلة”، وإنْ لم يمتني التمدد أمام التلفزيون، والاحتماء بالعتمة، وإنْ تحمَّمتُ كلَّ ساعتين، أو انتظرتُ حتى ثالث أيام عيد الأضحى، وبقيتُ حياً أرزقَ..؛ فلن أنجو حتماً من مجموع مضار تناول الشاي مع “الجبنة”!