على أوروبا التصدي للعقوبات الأميركية الخارجية

منشأة نفطية إيرانية  -  (أرشيفية)
منشأة نفطية إيرانية - (أرشيفية)

جيفري د. ساش*

نيويورك - يهدد نبذ دونالد ترامب لخطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران، وإعادة فرض العقوبات الأميركية على ذلك البلد، بتقويض السلام العالمي. ويعتمد أمن أوروبا على الدفاع عن الاتفاق مع إيران على الرغم من انسحاب الولايات المتحدة. وهذا بدوره يتطلب العمل من أوروبا، إلى جانب روسيا والصين وغيرهما من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، لضمان تطور العلاقات الاقتصادية مع إيران. ولن يتسنى هذا إلا إذا واجهت أوروبا، وأسقطت في نهاية المطاف، العقوبات التي تفرضها أميركا خارج حدودها، والتي تستهدف ردع الأنشطة التجارية والمالية مع إيران من قِبَل جهات غير أميركية.اضافة اعلان
الغرض من وراء تحرك ترامب واضح وصريح حقاً: إسقاط النظام الإيراني. وإزاء هذه الحماقة، يشعر المواطنون الأوروبيون بحق بأن مصالح أوروبا الأمنية لم تعد تتفق بشكل وثيق مع مصالح الولايات المتحدة.
الواقع أن نهج البلطجة الأميركية في التعامل مع إيران نال تأييد -بل مناصرة- حليفين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إسرائيل والسعودية. وتستحضر إسرائيل قوة الولايات المتحدة لتجنب الاضطرار إلى تقديم أي تنازلات مع الفلسطينيين. وتستدعي المملكة العربية السعودية القوة العسكرية الأميركية لاحتواء منافستها الإقليمية إيران. وكل منهما يتمنى لو تشن الولايات المتحدة حرباً مباشرة ضد إيران.
أسفرت محاولات أميركا السابقة لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط عن نتائج مروعة للولايات المتحدة وأوروبا (ناهيك عن الكوارث التي حلت بالبلدان التي انزلقت إلى الفوضى التي أحدثتها الولايات المتحدة). كانت "حروب الاختيار" هذه العامل الرئيسي وراء زيادة تدفقات الهجرة إلى أوروبا من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وحتى عندما "نجح" تغيير الأنظمة كما حدث في أفغانستان، والعراق، وليبيا، كانت العواقب العنف وعدم الاستقرار. وعندما فشل تغيير الأنظمة، كما حدث في سورية، كانت الحرب المتواصلة هي النتيجة.
كان الفشل المهين الذي مُني به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة وزراء المملكة المتحدة تيريزا ماي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في إقناع ترامب بالبقاء في خطة العمل الشاملة المشتركة متوقعاً. ذلك أن القرار الأميركي يعكس قوتين متقاربتين: نزوع السياسة الخارجية المتأصل ــ والذي تجلى في سلوكيات كل الإدارات الأميركية الحديثة ــ إلى السعي إلى فرض الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط، والطابع الغريب للاضطراب العقلي الذي يعاني منه ترامب، الذي يشعر بابتهاج عميق عندما يسبب لقادة أوروبا الحرج؛ ويرى في ارتباكهم وحيرتهم انتصارا له.
لكن هؤلاء القادة ليسوا عاجزين. فلا يزال إنقاذ الاتفاق مع إيران في حكم الممكن، خاصة وأنه اتفاق متعدد الأطراف أيده مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (القرار رقم 2231)، وليس اتفاقا بين الولايات المتحدة وإيران فقط. الواقع أن كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بما في ذلك الولايات المتحدة، ملزمة بموجب المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة بتنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة. وانسحاب الولايات المتحدة بقرار من ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة هو في حد ذاته انتهاك للقانون الدولي.
يتلخص جوهر خطة العمل الشاملة المشتركة والقرار رقم 2231 في وقف إيران للأنشطة التي قد تؤدي لتطوير الأسلحة النووية. ويرتبط امتثال إيران التام بهذا الشرط بتطبيع العلاقات الاقتصادية الدولية، بما في ذلك رفع العقوبات التي وافقت عليها الأمم المتحدة.
وحتى إذا كانت الولايات المتحدة الآن غائبة عن خطة العمل الشاملة المشتركة، فليس أماما سوى وسيلتين لمنع تنفيذ الاتفاق بين إيران وبقية العالَم. تتلخص الأولى في إشعال حرب. ومن الواضح أن هذا الخيار وارد على أجندة الولايات المتحدة، وخاصة مع عودة عميد المحافظين الجدد جون بولتون إلى البيت الأبيض في منصب مستشار الأمن القومي. ويتعين على العالم أن يقاوم بثبات وإخلاص أي مغامرة عسكرية أميركية مدمرة أخرى.
وتتمثل الطريقة الثانية التي قد تتمكن بها الولايات المتحدة من قتل خطة العمل الشاملة المشتركة في العقوبات الخارجية. ربما يكون بوسع الولايات المتحدة أن تتخذ القرار بالامتناع عن مزاولة التجارة مع إيران. أما أن تحاول حكومة الولايات المتحدة منع التجارة مع إيران من قِبَل أطراف غير أميركية فهو أمر مختلف تماما. لكن هذه هي نية أميركا؛ ومن واجب أوروبا والصين العمل على إحباط هذه النية، لمصلحة السلام العالمي، وهو ما يصب أيضا في مصلحتهما الاقتصادية المباشرة.
من الناحية العملية، سوف تتمكن الولايات المتحدة من فرض عقوباتها الموجهة ضد إيران على الشركات العاملة في سوقها المحلية، وفي الأرجح على الشركات التابعة لشركات أميركية عاملة في الخارج. ومع ذلك، ستحاول الولايات المتحدة الذهاب إلى ما هو أبعد من هذا، من خلال محاولة منع الشركات غير الأميركية من التعامل مع إيران. وربما تنجح الولايات المتحدة في قمع المعاملات المقومة بالدولار، لأنها تتم عموما عبر النظام المصرفي الأميركي. وسوف تكون القضية الحقيقية هنا مع الشركات غير الأميركية التي تعمل خارج الولايات المتحدة وتتفاعل مع إيران عبر عملات غير الدولار مثل اليورو والرنمينبي.
وسوف تحاول الولايات المتحدة بكل تأكيد معاقبة مثل هذه الشركات، سواء باستهداف أفرعها المحلية، من خلال محاولة سحبها إلى المحاكم الأميركية، أو من خلال حرمانها من الوصول إلى السوق الأميركية. وهنا يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يتخذ موقفا قويا ويتحرك إلى ما هو أبعد من التوسل إلى ترامب للحصول على "إعفاءات" لصفقات تجارية أوروبية بعينها، وهي العملية التي من شأنها أن تجعل الدول الأوروبية أكثر خضوعا لأهواء ترامب. بل ينبغي لأوروبا أن تدافع عن "لا" قاطعة لا لبس فيها للعقوبات الأميركية خارج حدودها، وخاصة على الشركات العاملة باستخدام عملات غير الدولار الأميركي.
ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يصر على أن العقوبات خارج الحدود الإقليمية تُعَد انتهاكا للقانون الدولي (بما في ذلك القرار رقم 2231، وبالتالي ميثاق الأمم المتحدة) وقواعد منظمة التجارة العالمية. وينبغي لقادة الاتحاد الأوروبي أن يدركوا أن الرضوخ يعني تسليم الولايات المتحدة شيكا على بياض لتحديد قواعد الحرب والسلام خارج مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقواعد التجارة العالمية خارج منظمة التجارة العالمية. ويجب أن يكون الاتحاد الأوروبي مستعدا لاستخدام عملية حل النزاعات في إطار منظمة التجارة العالمية ضد الولايات المتحدة، وأن يعرض قضيته على مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. فمن المؤكد أن الصين لن تتردد، حيثما أظهرت أوروبا الخوف، في الانقضاض للاستفادة من الفرص التجارية في إيران. وسوف تكون الصين محقة في ذلك.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه أوروبا ليس قانونياً أو حتى جيوسياسياً، بل نفسياً. والواقع أن قادة أوروبا يتصرفون وكأن الولايات المتحدة ما تزال تبالي بالتحالف عبر الأطلسي أو المصالح والقيم المشتركة. من المؤسف أن هذه لم تعد الحال.
ما تزال المصالح المشتركة كثيرة بين الولايات المتحدة وأوروبا؛ لكن الأمر لا يخلو من مصالح متباعدة أيضاً، وخاصة عندما تنتهك الولايات المتحدة القانون الدولي. وأوروبا في احتياج إلى سياسة خارجية خاصة بها، تماماً كما تحتاج إلى سياسة تجارية وبيئية خاصة. ولذلك، فإن المواجهة حول خطة العمل الشاملة المشتركة هي لحظة الحقيقة. ويعتمد السلام العالمي على دفاع أوروبا عن ميثاق الأمم المتحدة وقواعد التجارة الدولية.

*أستاذ التنمية المستدامة وأستاذ السياسات والإدارة الصحية في جامعة كولومبيا، وهو مدير مركز كولومبيا للتنمية المستدامة وشبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة. تشمل كتبه "نهاية الفقر"، و"الثروة المشتركة"، و"عصر التنمية المستدامة"، ومؤخراً "بناء الاقتصاد الأميركي الجديد".
*خاص بـ‘‘الغد‘‘ بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".