" عم يتساءلون"؟

حسني عايش  «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَأ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» (1-3/78) والنبأ العظيم هنا هو الهوية الجامعة، فما الهوية وكيف تنشأ وتكون؟ حسب علمي الاجتماع والنفس الهوية تماثل أو تماهي الفرد مع جماعة معينة، باستدخال مصالحها وقيمها ومعاييرها وتوقعاتها وتطلعاتها. والتماثل او التماهي مهم جداً بل ضروري تماماً في السلوك الإنساني العادي في إطارين: في إطار النمو الذاتي، وفي إطار التكيف الاجتماعي. والتماثل أو التماهي غير مقصور على مرحلة الطفولة، حيث تبدأ الهوية في التشكل، فالراشدون أيضاً يمكن أن يتماثلوا أو أن يتماهوا مع جماعة معينة بالفكر أو بالمحبة، أو بالقلق، كما أن التماثل ليس آلية دفاع دائماً. والتماثل أو التماهي إيجابي عادة. وعندما يكون سلبياً فإنه تقدم للفرد معاييراً للسلوك، وتعريفاً لذاته، ودليلاً أو إيحاء فيما يجب أن تكون عليه هويته او صيغتها وحتى السياسات التي يرغب فيها. ويؤدي التفاعل بين الجماعات أو المنابت والأصول في المجتمع وبخاصة في حالات الصراع الشديد بينها إلى نشوء نظام تحصيني وأحياناً تحريضي يركز على الاختلافات بينها، أكثر منه على الجوامع المشتركة بينها في السعي إلى استكمال بناء أو تعزيز الهوية الفردية والجمعية او للاستئثار بمصالح معينة. وهكذا فإن التماثل أو التماهي يرفع منسوب الوعي عند الفرد بتمييز جماعته، أو -على الأقل- برؤيتها لنفسها أو باختلافها الإثني عن الجماعة المقابلة أو المناظرة. وفي النهاية تصبح الجماعة التي يتماثل الفرد معها أو يتماهى جماعته المرجعية، ويدمجها في ذاته. وينتقل هذا التماثل أو التماهي من الفرد أو الأفراد في الجماعة أو المجتمع، إلى أمثاله/ امثالهم في السلطة أو عند أصحاب القرار في الدولة، فيتحيزون به لصالحها، ويعملون على إحكام سيطرتها عليها، مستثنين أو مقصين أبناء وبنات الجماعة المقابلة أو المناظرة منها، وإن كان ذلك غير معترف به في الدستور، أو في القوانين والأنظمة. وبهذا المنهج تصبح للجماعة المهيمنة هويتان: أحدهما علنية (Manifest) تبدو وكأنها منسجمة مع الدستور والصالح العام، وهوية مستترة (latent) يمثلها أفرادها القابضون على السلطة. وعندما تتحول الهوية المستترة هذه إلى هوية معلنة فإن ذلك يدل على استعداد اصحابها للدخول في صراع مع منبت أو منابت اخرى لاحتكار السلطة والمصالح. لعمري ما ضاقت بلاد لأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق عندما نفكر عالمياً ونتصرف محلياً نجد أن جميع الهويات العامة في العالم – إجمالاً– جغرافية وإن كان أصل بعضها او كثير منها بشرياً بالتأسيس أو بالتجنيس. في الدولة الباقية تلتزم جميع الجماعات او المنابت والأصول بالهوية الجامعة دولياً وبالدستور داخلياً، وتتراجع جميع الهويات الفرعية لصالحهما. وتتجلى الهوية الجغرافية في التعامل مع الخارج، فالمرء خارج وطنه لا ينتسب إلى هويته الفرعية ولا يعزف نفسه بها، بل يقول: أنا أردني، أو عراقي، او صيني، أو بريطاني، أو أميركي… ولكنه في داخل الوطن أو عندما يلتقي بواحد من مجتمعه في الخارج فإنه قد يعرّف نفسه بهويته الفرعية فيقول: أنا من الجنوب أو من الشمال…، أو أنا مجالي، أو أنا عبادي، أو انا من بني حسن… ومثله يقول الواحد في بريطانيا، أنا انجليزي أو اسكتنلدي، او أسيوي أو أفريقي، أو أردني، (كالسيد نصر المجالي) وهكذا في جميع البلدان. ولا مشكلة في ذلك ما دامت الهويات تستخدم للتعريف ولا تتحول إلى أيدولوجيا سياسية. ذلكم هي الهوية الجامعة ومن يرفضها أو لا يعترف بها ليعلي من شأن الهوية الفرعية عليها، أو يعطل الدستور والعدالة، يحول بلده إلى دولة أبارثيد ويقف ضد حركة التاريخ وما هو بقادر، وصادق خان رئيس بلدية لندن شاهد أو نموذج عليه. لقد ظل شعبنا يعرف نفسه بالسوريين إلى أن فتتت سايكس بيكو الجغرافية هويته هذه إلى أربع هويات، ومع هذا ظل الناس في كل منها يحنون إلى تلك الهوية السورية الجامعة التي قضى المرحوم الملك عبد الله طيلة حياته يعمل لاسترجاعها إلى أن حصل أصحابها على الاستقلال، وأخذت الخصوصيات او -على الأصح- الحساسيات القطرية والفرعية تتكون وتشتد وتعلو عليها إلى درجة الدخول في حرب أهلية في بعضها من أجل تثبيتها. وللأسف ولسوء التربية والتعليم والخلف نرى بعض القوميين ودعاة الوحدة العربية السابقين، أو إلى أمة عربية واحدة، ينقلبون على أعقابهم، ويتحولون إلى قطريين وفرعيين شديدي التعصب. ربما لا توجد دولة في العالم تخلو من الهويات الفرعية، وقد حلّت الدول الديمقراطية المشكلة بالتعددية، وأطلقت للجميع دون تمييز فرص الوصول إلى جميع الوظائف والمراكز حتى وإن حصل بعضهم على جنسيتها بالأمس، ولكنهم في بلادنا العربية، وبخاصة في آسيا العربية لذلك يرفضون وبأشقائهم يزورون، بدلاً من تعلمهم من التاريخ كيلا فيه يسقطون.

المقال السابق للكاتب

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا 

اضافة اعلان