عندما تسخر الديمقراطية لمصلحة الاقتصاد

ترجمة: ينال أبو زينة

من الذي يتخذ القرارات في ظل ديمقراطية ما؟ عُد في الزمن إلى أثينا القديمة وستجد أن القرار كان ينبثق عن اجتماع يتم على الملأ بين الذكور البالغين فقط (ولا يشمل العبيد). وفي العالم الحديث، يتخذ الممثلون المنتخبون القرارات، وهم من يتحصل الناخبون على فرصة إبعادهم عن مناصبهم كل بضعة أعوام، إن لم يعجبهم ما حققوه من إنجازات خلال فترة توليهم هذه المناصب. اضافة اعلان
وفي النظام البريطاني، يعرف رئيس الوزراء بأنه الشخص الوحيد الذي يحظى بدعم أغلبية النواب في مجلس العموم. ولذلك ربما تعتبر استقالة ديفيد كاميرون من منصبه واستبداله بتيريزا ماي، دون استشارة الناخبين، مثالاً على نظام يعمل بشكل طبيعي، وقد حدث الأمر نفسه في العام 2007 أيضاً (عندما تولى جوردن براون منصبه)، وفي العام 1990 (حقبة جون ميجور)، والعام 1976 (جيم كالاهان)، وفي الكثير من المرات التي سبقت ذلك.
ومع ذلك، لا يمكن اعتبار هذه الفترات بالعادية حقيقيةً، لاسيما وأن ارتياح العامة للسياسيين منخفض بشكل كبير. ودائماً ما كانت الديمقراطية التمثيلية (النيابية) موقع صراعٍ فطري، الأمر الذي وصفه "إدموند بيرك" في العام 1774 بالشكل الأمثل، حيث قال إن "من يمثلك يمتلكك، ليس في صناعته وحسب، وإنما في حُكمه أيضاً؛ وهو يخون، بدلاً من أن يخدمك، إذا ما ضحى بذلك لأجل رأيك".
وأضاف: "الحكومة والتشريعات ما هي إلا مسائل منطق وحكم، ولا علاقة لها بزاوية الميل، ولكن ما هو ذلك المنطق الذي يستبق فيه العزم القرار، ويتداول فيه مجموعة من الرجال القضايا ليقرر شخص واحد في النهاية، والذي يكون فيه من يتخذون القرار ربما أبعد بمسافة 300 ميل عن هؤلاء الذي سمعوا الحجج والنقاشات؟".
بواقع الحال، يشكك الجمهور الحديث بالسياسيين الذين يستخدمون "أحكامهم الخاصة"، وتبرز مكامن القلق في أنهم ربما يكونون أكثر اهتماماً بمصالحهم الشخصية أو بمصالح من يمولون حملاتهم الانتخابية.
وللديمقراطية أشكال ونماذج عدة في الحقيقة أيضا. ويبرز منها الديمقراطية المباشرة، حيث يقرر الشعب مصير القضايا الرئيسية من خلال الاستفتاءات الشعبية. وذلك أسلوب ديمقارطي إلى حد كبير، رغم العدد المحدود للأسئلة التي يمكن اقتصار أجوبتها على مجرد "نعم" أو "لا". ويعتبر الاستقلال الاسكتلندي أحد الأمثلة الحية على ذلك.
ولكن مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي كانت غامضة بعض الشيء، لاسيما وأن نتائج التصويت لم تكن واضحة المعالم. ويساعد هذا الواقع على تفسير الفوضى الراهنة في السياسة البريطانية، وكيف أن رئيس الوزراء يقف مع جانب البقاء في الاتحاد (ولو شكلياً)، في حين تسبب المرشحين المطالبين بالمغادرة على اختلاف أحزابهم لبعضهم (وأنفسهم) بالمشاكل.
وهناك نموذج آخر للديمقراطية يسترشد فيه الممثلون لا بالشعب كاملاً، وإنما بأعضاء الحزب الذين ينتمون إليه. وعلى صعيد متصل، يرى زعيم حزب العمال "جيريمي كوربين" ومناصريه أعضاء البرلمان بأنهم "مندوبون" عن رؤيا الحزب. ولذلك، رفض كوربين التنحي عن منصبه حتى مع خسارة 80 % من أعضاء البرلمان الثقة فيه. وربما يعاد انتخابه مرة أخرى، ما سيضع أعضاء البرلمان في موقع صعب.
ومن الجانب المحافظ، كان يمكن للأعضاء انتخاب أندريا ليدسوم، التي انسحب مؤخراً من سباق الزعامة لحزب المحافظين، وهذا على الرغم من أن معظم أعضاء البرلمان يدعمون السيدة ماي.
وعقب فترة طويلة من العضوية المتناقصة، أمسى من السهل علينا أن نلاحظ سبب إشراك الأحزاب البريطانية أعضاءها في العملية الانتخابية. وكيف أصبح من الممكن لأعضاء الأحزاب أن يجوبوا الشوارع ليعبروا بشكل صارخ عن أمر ما.
وبطبيعة الحال، زادت عضويات حزب العمال في ظل القواعد الجديدة. لكن أعضاء الحزب ليسوا كالمرشحين، في ضوء أنهم يميلون للتطرف إما يميناً أو يسارا. ولذلك، قد لا يكون ممثل الحزب في المجالس البرلمانية يتمتع بجاذبية انتخابية بالضرورة.
وفي الولايات المتحدة، من جهة أخرى، اعتاد أعضاء الحزب على هذا الأمر ومالوا منذ فترة طويلة إلى تحديد المرشح الأكثر رواجاً بين المنتخبين بالاعتماد على الانتخابات التمهيدية (رومني لا سانتوروم، على سبيل المثال). ولكن هذه الطريقة لم تنجح مع الجمهوريين ودونالد ترامب هذه المرة. ومع ذلك، يعود أمر البت في جدارة ترامب إلى الناخبين في تشرين الثاني (نوفمبر)، بينما سيضطر الناخبون في بريطانيا إلى الانتظار حتى العام 2020 للتعبير عن رأيهم في السيدة ماي.
وبالنسبة للشركات والمستثمرين، تضيف هذه الأشكال والأوضاع المختلفة للديمقراطية المزيد إلى أجواء عدم اليقين السائدة أساساً. بحيث يصعب اتخاذ قرار استثماري عندما تكون السياسة غير جديرة بالثقة. وعلينا أن نأخذ بالاعتبار هنا ما حدث خلال الشهور الأخيرة، عندما خاضت إسبانيا مرحلتين انتخابيتين دون تنصيب فائز واضح، وعندما دعت أستراليا إلى إجراء انتخابات مبكرة مفاجئة لتنتهي تقريباً إلى طريق مسدود، وكيف تمت إعادة الانتخابات الرئاسية في النمسا (الأمر الذي ربما يبشر بسقوط حكومة البلاد بطبيعة الحال).
وعندما تسقط حكومة ما سريعاً (أو تَحكم بمساعدة أحزاب الأقلية)، يصبح وضع السياسات شبيها بورقة يانصيب أو بالمقامرة.
ومن جهة أخرى، أصبح هناك نوع من التقاء الآراء في بريطانيا اليوم، فقد أمسى من الواضح من سيصبح رئيس الوزراء، ولكن طبيعة ترتيبات بريطانيا نفسها –إثر مغادرتها الاتحاد الأوروبي- ما تزال غير واضحة.
وبواقع الحال، يصبح عدم اليقين السياسي النهج الأكثر أهمية عندما تلعب السياسة النقدية معظم أوراقها (وقد تشارك سياسة طباعة العملة بكميات كبيرة وتوزيعها على الشعب لتحفيز الاقتصاد دوراً رئيسياً أيضاً، إذا ما كانت ممكنة من الناحية السياسية). وربما تحرز الحكومات تقدماً ملحوظاً لدى تبنيها سياسة مالية كـ"الاقتراض بمعدلات منخفضة" على سبيل المثال، بغية تمويل مشاريع البنية التحتية. ولكنه ليس من الواضح إذا ما كان أحد السياسيين يتمتع بما يكفي من ثقة لاتخاذ هذا المسلك بعد، وهذا قد يعود إلى كونهم لن يبقوا في مناصبهم لفترة طويلة. ونحن نعلم أيضاً أن أصحاب المناصب الآمنة في الكونغرس الأميركي يترددون في التوصل إلى حل وسط مع المعارضة خوفاً من إقصائهم من مناصبهم بشكل أساسي.
وفي بعض الأحيان، بالطبع، تحبذ الشركات والمستثمرون وضع الاختناق السياسي هذا لأنه يعني أن الحكومات لن تعقد وتصعب الأوضاع أكثر مما هي عليه على الأغلب.

"الإيكونوميست"