عندما كان الماضي جميلا

محمود خطاطبة- صحيح بأن التغني والتباهي بالماضي، أمر غير سليم أو صحي.. وفي الوقت نفسه يُقال «بأن من لم ينظر إلى الوراء فهذا يعني بأن تاريخه مؤلم»، لكن من يُراقب، خصوصا بعين الخوف على المُستقبل، حتما يتحسر على ما وصلنا إليه من الدرجات الدنيا، ويتألم على ماض جميل بكل ما فيه من مُنغصات، إذا ما تم مُقارنتها بالوضع الحالي. في الماضي، كان للأبوين احترام قل نظيره، فكلمتهما مسموعة حتى ولو كانت لا تأتي على هوى الأبن أو الأبنة، ويُعد كُفرًا من يُقدم على رفع صوته عليهما.. كان الأبوان، رغم قلة تحصليهما العلمي أو الأكاديمي، يملكان نظريات اقتصادية ومعيشية استطاعت أن تُنشئ جيلا رائعا يُشار له بالبنان، فضلا عن مُجاراة الأوضاع المادية التي كانت شحيحة وقتها. في الماضي، كان الجميع بلا استثناء، إلا قلة، يذهبون مشيا على الأقدام إلى مدارسهم، التي تبعد كيلومترات عدة، بلا خوف أو ارتجاف من مارق طريق أو التعرض لـ»بلطجية» أو الخشية من أن يمضي بهم الحال إلى تعاطي مُخدرات أو شرب كحول.. أما اليوم فالجميع، إلا ثُلة، يذهبون بمركبات وحافلات «مُكيفة»، يملؤهم الرعب من القادم. في الماضي، كُنا نشتري ونأكل من «العربات» المكشوفة، أكانت «كعكا» أم سندويش فلافل أم حلويات، بلا تردد أو خوف من جراثيم وأمراض.. أما الآن فنأكل من محال مضمونة وعليها رقابة، ومع ذلك نمرض ونُصاب بعدوى الأمراض. في الماضي، كان للمُعلم هيبة، وكلمته مسموعة حتى عند الأسرة أو في الحي وكذلك المدينة أو القرية كُلها، فنحن جيل تعلم وفق قاعدة أساسية بأن التربية قبل التعليم، ولذلك يُطلق عليها حتى الآن وزارة التربية والتعليم، كُنا نخشى ونهاب المُعلم من أن يرانا ونحن نلعب في الحارة، لعب فقط، ليس «تدخين» أو «كحول» أو التلفظ بألفاظ نابية. كان المُعلم عندما يدخل مجلسا، أكان عزاء أم فرحا، يتم إجلاسه في صدر ذلك المجلس.. أما الآن فقد مُسحت تلك الهالة التي كانت تُحيط بالمعلم، بفعل فاعل، وعن سبق إصرار وترصد، إذ أوصلوا المعلم إلى درجة «بأن الطالب سواء درس أم لم يدرس فالحالان سواء». في الماضي، كانت وجبة الغداء مُقدسة، جميع أفراد الأُسرة يتواجدون حولها، كانت وجبة الغداء أو الإفطار في شهر رمضان المُبارك، عبارة عن «بوفيه» مفتوح، حيث كان يتبادل الجيران الأطباق التي يقومون بطهيها.. أما الآن فكُل فرد من أفراد الأُسرة يأكل وحده، والجار لا يعرف جاره، إلا من رحم ربي. في الماضي، كانت الطبقة الوسطى هي الطاغية، سماتهم الطيبة، ودائما مرسوم على محياهم الطيبة والكرم والشهامة والمروءة والفروسية، حتى أولئك الذين أنعم الله عز وجل عليهم وفضلهم على غيرهم، كانوا يأكلون من الطعام نفسه، ويسكنون في الحي أو الشارع ذاته، ويلبسون من الثياب نفسها، ولديهم الصفات ذاتها أيضًا. أما الآن فقد تغيرت الطيبة والنُبل، وكثير من الصفات المحمودة، من عدل ووفاء وتسامح وحب الآخر، وتم استبدالها بسوء الظن، والحسد، والكره، والضغينة، والحقد، والشك، والفساد، والنفاق، وحب الذات، والتباهي بأمور ثانوية. أصبح الإنسان في وطني، أكثر مالًا، وتعليمًا، وأناقة، ومُجاملة بالقول والفعل.. لكنه بالمُقابل أصبح كثير الغضب، غير مُرتاح البال، كثير الشكوى والتذمر، قليل الفرح والسعادة على الرغم من كثرة الأفراح. أخشى أن نكون فقدنا قيما وعادات وتقاليد إنسانية رائعة، والخوف كل الخوف أن ينطبق علينا قول رب العزة جل في علاه: «وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ضَنكا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتنِي أَعمَى وَقَد كُنتُ بَصِيرا* قَالَ كَذَلِكَ أَتتكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسَى»، صدق الله العظيم. المقال السابق للكاتب مسؤولون موظفوناضافة اعلان