عندما لا يعجب الأردنيين العجب!

حتى عندما "يُنكّتْ" الأردني، وقليلا ما يفعل، فإن الحدة ومسحة الغضب لا تغيبان عن حديثه وتعابير وجهه. فكيف به إذا "فش خلقه" بجار أو سائق مركبة مرت مسرعة من جانبه؟! وكيف به إذا علّق على قرار حكومي أو سياسة عامة، سواء كان أو كانت (القرار أو السياسة) لهما تأثير مباشر على وضعه الاقتصادي أو المعيشي، أو لم يكن؟! اضافة اعلان
نعم، لم يعد يعجبنا -نحن الأردنيين- العجب! ولم يعد مستغربا خلال السنوات القليلة الماضية، انتشار المشاكل الاجتماعية والمشاجرات والتعبيرات الغاضبة والعنيفة، سواء في الواقع الملموس على الأرض، أو في الفضاء الإلكتروني. وقد لا يكون مستغربا -والله أعلم- تزايد ما يدعى بـ"جرائم الشرف"، ولا اتساع ظاهرة الانتحار، إضافة إلى التنمر على القانون وعلى الآخر، والتراجع القيمي والأخلاقي عند الكثيرين!   
في تداعيات وتفاعلات قضية تعديل المناهج المدرسية، كان يلفت انتباهي لجوء العديدين إلى أبذأ ما في قاموس الشتائم ولغة الشارع من أوصاف وشتائم في رفض تعديل المناهج بدعوى مسّها بالقيم الإسلامية والثقافية للمجتمع، فيما لم تنجُ من حملات الردح والشتائم حتى أعراض من يوجه ضدهم الهجوم، لتتساءل أي انفصام يمكن أن يقع فيه الإنسان، وهو يتصدى للدفاع عن قيم دينية وأخلاقية كبيرة، اعتقد هو أنه تم المس بها، بينما يلجأ في وسيلته لهذا الدفاع إلى أقذع وأدنى الخطابات الأخلاقية والشوارعية؟!
أزعم أن هذه الخطابات واللغة والحدة في التعبير والعنف اللفظي والجسدي لم تكن مألوفة بهذا الانتشار والبروز قبل عقد أو عقدين، كما هي الآن، فهل تغيرت الثقافة ومدخلات التنشئة الاجتماعية للأفراد؟ أم هي أسباب أخرى؟
لا أحد يستطيع المجادلة في أهمية البعد التربوي والثقافي والتنشئة الاجتماعية في تشكيل الأنساق العامة لسلوك الناس وطبيعة استجاباتهم للأحداث والمواقف، ولا شك أن ثمة ثغرة في هذا الباب تسهم في انتشار ظاهرة التعبيرات العنيفة كسمة عامة للأردنيين اليوم. لكن من الظلم التركيز على البعد الثقافي والتربوي باعتبارهما منتجيّ مثل هذه الحالة، من دون الذهاب الى تفكيك البيئة الاقتصادية والمعيشية الحاضنة والمفرخة لسلسلة طويلة من الانعكاسات والتأثيرات الاجتماعية والسياسية والسلوكية السلبية، والتي قد تصل، كلها أو بعضها، إلى مرحلة الظاهرة او "الوباء" العام، إن جاز التعبير.
مفتاح "كشرة" الأردنيين، وحدّتهم القاسية المتصاعدة يوما بعد آخر، وحتى مواقفهم الحادة من تعديل المناهج، والتنمر على القانون والآخر، وتزايد جرائم "الشرف" وغيرها، لن تجده في الجينات ولا في الأسباب الثقافية، بل فتش عن الاقتصاد والمستوى المعيشي، ورحلة انحدار المداخيل والأجور وتزايد أعباء المعيشة والحياة، والزلزال الذي ضرب الطبقة الوسطى، وهوى بها إلى أسفل أرض، وما يزال.
نعم؛ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لكن من دون الخبز وأبسط مقومات الحياة لا تتبقى حياة ولا قيم ولا أخلاق ولا انتماء.. ولا ابتسامة أو أريحية في التعامل مع النفس والآخر.
قراءة الانحدار في السلوكيات العامة والخاصة، واتساع الخطاب الرافض لكل شيء، والنبرة المشككة بكل شيء، والحدة في التعبير والسلوك العنيف والتدميري ضد الذات وضد الآخر والمجتمع، لا يمكن إخراجها من سياقها الاقتصادي الاجتماعي، والفشل المتوالي في التنمية الاقتصادية، وانعكاس ذلك على مستويات المعيشة للناس، بمختلف طبقاتهم، تحديدا الفقيرة وما تبقى من وسطى، حيث تآكل المداخيل والأجور، والارتفاع الجنوني لتكاليف المعيشة مع تراجع مستوى الخدمات العامة، التعليمية والصحية أساسا، وتزايد معدلات البطالة، وظاهرة العمل بالسخرة في ظل رواتب تكاد لا يكفي الواحد منها لسداد أجرة منزل متواضع.
هل اكشف بما سبق عن حقيقة جديدة؟! طبعا لا، لكنها محاولة للتفكير خارج الصندوق، في النظر إلى اتساع ظواهر الجريمة والعنف والتنمر وخطابات التكفير والتخوين، ورفض كل شيء حتى لو كان صحيحا! والله أعلم.