عندما يتشظى الاستبداد

قبل دخولنا الألفية الثالثة، كانت البلدان العربية أكثر أمنا واستقرارا، يديرها زعماء أحكم أغلبهم قبضته على كل مقدراتها وإمكاناتها؛ فلا جريمة ولا سلاح، ولا تعبير ولا انشقاق. أما التعبير المتاح، فهو باتجاه خدمة خطاب السلطة والإشادة بإنجازاتها، والتصدي لخصومها الخارجيين. والناس يسيّرون حياتهم وشؤونهم اليومية من دون قلق يذكر على أمنهم، طالما أنهم لا يحملون طموحات سياسية.اضافة اعلان
في العراق وسورية وليبيا، تحديدا، كانت جرائم القتل في حدودها الدنيا، ولا سلاح في أيدي الناس. وفي غالبية البلدان العربية، لم يكن هناك متسع للرأي الآخر. وعلى كل من يحاول تجاوز الخطوط التي ترسمها النظم أن يختار بين الاعتقال أو أن يمضي ما تبقّى من حياته في المنفى. وكنتاج لهذه السياسات، فقدت بلداننا، عموماً، خيرة علمائها ومفكريها وقياداتها المحتملة، وتحول هؤلاء إلى جاليات استوطنت عواصم الغرب، وأسهمت في إدامة حضارته.
في جميع المراحل التي تلت الحرب العالمية الثانية، ونيل البلدان العربية للاستقلال، تحدثت النظم العربية الجديدة عن الحرية والإخاء والعدل وتكافؤ الفرص، ووعدت شعوبها بتحقيق أحلامها التي ظنت أن الاستعمار اغتالها أو أعاق تحقيقها، لكن ليكتشف المواطن العربي أن البيانات الثورية لا تعدو كونها وعودا قطعتها القيادات الجديدة لتلقى القبول من الجماهير المتعطشة إلى تحقيق التنمية، بعد أن غابت عن فضائها قرونا.
ومن ثم، فإنه في الوقت الذي كان العالم العربي ينعم باستقرار ظاهري بفضل القبضة الفولاذية لدكتاتوريات حاكمة في أغلب بلدانه، كان العديد من دول الغرب والشرق يعاني من معدلات جريمة مرتفعة؛ إذ شهدت الولايات المتحدة وأوروبا وأفريقيا معدلات أعلى في جرائم القتل والسلب والسطو والمخدرات والدعارة والجريمة المنظمة وغيرها.
في مؤتمراتنا العربية التي يحضرها وزراء الداخلية ومسؤولو الأجهزة الأمنية، كانت المقارنات حاضرة، والأرقام مدعاة لتفاخر إدارات تلك الأجهزة بمستوى إنجازها وتنسيقها وتعاونها الذي لم ينقطع منذ تأسيس مجلس وزراء الداخلية العرب، حتى في الأوقات التي لا تكون فيها العلاقات العربية البينية على ما يرام.
السبات الذي خيم على الفضاء العربي لأكثر من خمسة قرون، ما كان ليستمر مع هبوب رياح العولمة وانتشار التكنولوجيا والانفتاح على ما يدور في العالم، واستكشاف الشباب العربي لحالة السبات التي عاشتها الشعوب العربية في عالم يفيض بالحيوية والتفاعل والصخب السياسي. وأمام هذا الواقع، انتفض الشباب العربي وهبت رياح التغيير من تونس إلى مصر، ومن سورية إلى اليمن، وانتشرت العدوى لتصيب الجسم العربي بكامله.
في بعض البلدان، انهارت منظومة الأمن، وعمت الفوضى، وأصبحت المدافع والبنادق والأحزمة الناسفة جزءا من المشهد العام، كما تفتحت شهية البعض للانتقام والقتل والتنكيل؛ تحت شعارات الإصلاح الديني تارة، والقضاء على الفساد والتخلص من رموزه والانتقام للمظلومين تارة أخرى. وبعض النظم العربية استطاع أن يمتص الصدمة ويستوعب آثارها، فاستعاد توازنه من خلال إجراءات تجميلية طالت جوانب أثارت القوى الجديدة أسئلة حولها.
في كل الأحوال، وكنتيجة لغياب التنمية ومقاومة النظم الدكتاتورية العربية، وقبلها الاستعمارية، لأي شكل من أشكال التنظيم غير التابعة لها، فقد أدى انهيار هذه النظم إلى انتشار الفوضى وتشظي المجتمع، وتنامي شهوة الانتقام وصناعة الموت. وبالتالي، أصبحت الشكوك والاتهامات أبرز ملامح الشرق الأوسط الجديد؛ فالسلاح منتشر، والجماعات الأكثر محافظة تلعب أدوارا أساسية في دعم التغيير في النظم الواقعة خارج حدودها، والمرجعيات التي يستند لها دعاة التغيير لا ترتبط بمفاهيم الدولة والمواطنة والتقدم، بمقدار ارتباطها بالعقيدة والأيديولوجيا والمعاداة للقوى المحركة للتغيير أو الداعمة للمحافظة.
المنطقة العربية أصبحت محطا لأنظار العالم؛ لا لقيمتها الدينية أو الجغرافية أو السياسية فحسب، بل لارتفاع منسوب الكراهية والغضب، وإنتاج الرعب والموت والإرهاب الذي وصل إلى مستويات ولدّت الذعر في نفوس كل من يتعرض لمشاهده.
التلذذ بالقتل، وابتداع طقوس احتفالية لأدائه بدم بارد ووحشية لا تنتمي لهذا الزمان، ظواهر مقلقة للبشرية، ومدمرة لصورة الإسلام والمسلمين.
في الأشهر الأخيرة، أظهرت الجماعات "التي استطاعت أن تهزم الجيوش التي ظن الغرب أنها تشكل تهديداً للكيان الصهيوني" شغفا غير مألوف لصناعة الموت وتقديمه في قوالب وطقوس لم تألفها البشرية من قبل، تحت أضواء الكاميرات، وعلى إيقاع المؤثرات الصوتية والبصرية. وهو ما يدفعك إلى التساؤل عن الفكر والغاية والتنظيم لمن يرتكبون هذه الأفعال، ويحرصون على تقديمها ضمن خطة إعلامية تهدف إلى إظهار براعة مُعدّيها في صناعة الموت والخوف والدمار.
السؤال الذي يحير المواطن العربي، ويظهر عجز الباحثين والمحللين، يتعلق بأسباب اختفاء القوى الحداثية من المشهد العربي، والعوامل التي أدت إلى الظهور المفاجئ لهذه التنظيمات وهيمنتها على مسرح الأحداث، بشكل فاق توقعات أكثر منظري هذه الجماعات تفاؤلاً.
فالجميع يتنصل من الجماعات التي أخذت تتوالد على مساحة الفضاء العربي في بلاد الشام وشمال أفريقيا وسيناء. إذ اليوم لا أحد يعترف بأن له علاقة بتنظيم "داعش" وأخواته، مع أن تسليحه وتدريبه وتقنياته وتنظيمه وخطابه الإعلامي، واستمرارية وجوده، تشي بغير ذلك.
في العالم الإسلامي فوضى غير خلاّقة، وقَلقٌ يتجدد مع كل نشرة أنباء أو خبر عاجل. في شرق أوسط جديد تتضارب المواقف المعلنة مع المصالح الخفية للأطراف التي تبني سياساتها على أسس المنفعة، بصرف النظر عمن سيدفع الثمن في هذا الفضاء المضطرب.
الخوف والقلق وغياب الطمأنينة وضعف تدفق المعلومات حول ما يحدث، وأسبابه، والأطراف المتورطة فيه، ومستقبل المنطقة.. أسئلة تشغل بال الجميع، في زمن زادت فيه الرغبة في المعرفة والفهم والمشاركة، فهل من مجيب؟
الدكتاتوريات العربية البائدة حفظت الأمن، لكنها لم تحافظ على الكرامة، وفشلت في تحقيق التنمية. فما إن غادر هؤلاء القادة مواقعهم حتى انهارت بلدانهم، وأخذ الجميع يبحث عن مرجعيات تمكنهم من تنظيم أنفسهم وإدارة شؤونهم والسير نحو المستقبل.
المؤسف أن الثورات التي منحت أملا في الحرية للشعوب المقهورة، كشفت عن عورات النظم التي لم تقم بواجبها في تنمية شعوبها وتمكينها من المشاركة والفعل. والشعوب العربية ما تزال تائهة بين الماضي الذي سمعت عنه، والمستقبل الذي تأخرت في الإعداد له.

*وزير سابق