"عندما يعيد الجنوب اختراع العالم".. إصدار جديد عن مؤسسة الفكر العربي

Untitled-1
Untitled-1

عمان - الغد - يستكمل الباحث الفرنسي برتران بادي في كتابه "عندما يعيد الجنوب اختراع العالم" الصادر عن مؤسّسة الفكر العربي، وتولّى ترجمته إلى العربية الدكتور جان جبّور، المشروع الذي بدأه سابقاً في تفكيك النظام الدولي الحالي ونقده، بدءا من كِتابه الشهير زمن المذلولين (2014) وحتى الكتاب الأخير لم نَعُد وحدنا في العالم (2016)، وتولّت مؤسّسة الفكر العربي ترجمته أيضا، والذي أشار فيه إلى أنّ القوى القديمة عاشت لفترة طويلة في وهم هو أشبه بالهوس، بأنّها تقود العالم وتختصره بمفردها، وأنّ العلوم السياسية بمنحاها الرسمي كانت في الواقع إسقاطا لهذا التاريخ الأوحد لغرب يمتدّ على مرّ القرون.اضافة اعلان
يحاول المؤلّف في كتابه الجديد هذا، الإبقاء على تماسك هذه الفرضية، لكنّه يسعى هذه المرّة للنظر إلى العالم بمنظار الجنوب، وإخراجه من التهميش الذي يُدفع إليه، من خلال تسميات تُلصق به مثل "العالم الثالث"، "المناطق الطَرَفية"، وغيره. إنّ فكرة هامشيّة الجنوب لم تعد تتوافق البتّة مع الواقع الدولي المعاصر، وحين نبذل بعض الجهد للنفاذ إلى داخلية الفاعلين في هذا الجزء من العالم، لا بدّ من أن تتكشّف لنا مجموعة من الأفكار والتمثّلات التي يتمّ تجاهلها، بل إنّها لا تخطر في بال الفاعلين السياسيين في الشمال، ولا في بال بارونات العلوم السياسية المهيمِنة. وندرك أخيراً أنّ الجنوب يمتلك بالفعل القدرة على إعادة تشكيل المشهد الدولي بشكلٍ يجعل من الأنماط التي يعتاش عليها أسياد الشمال، نماذج قد تخطّاها الزمن.
يسعى الكِتاب في الواقع للإجابة عن ثلاث مسائل: أولاً ما يتعلّق بهويّة "الجنوب"، هذه التسمية الجغرافية التي تبدو مُلتبسة ما أن نطبّقها على تعقيدات العلاقات الدولية. فقد كان هناك زمن ساد فيه الانقسام العمودي بين "الشمال" و"الجنوب"، عندما واجه نظام وستفاليا القديم "بقية العالم"، ذاك الجزء الذي بقي خارج النظام الدولي التأسيسي الذي اختار أن يضعه عمدا في مرتبة أدنى، إما من خلال استعماره، أو من خلال وضعه تحت أشكال من الوصاية المعقّدة.
المسألة الثانية تتعلق بطبيعة هذا المسار، بهذا الدخول البطيء إلى العالم، والذي نتناسى أنه كان مصدراً لعمليات فشل متتالية ما نزال ندفع ثمنها غالياً إلى اليوم. فشلُ إنهاء الاستعمار الذي كان في كثير من الأحيان دراماتيكيا، وما يزال عنفه يؤرق الذاكرة، فنراه يستيقظ عند أيّ مفترق. فشلُ بناء الدول حين أُنجز تحت ضغط الاستعجال، من خلال التقليد المتسرّع للنماذج الموروثة عن المستعمِر السابق. فشلُ القادة، أصحاب الشخصية الضعيفة أحياناً، أو على العكس من ذلك، المنقادين لأبشع أنواع الاستبداد، إلّا أنّ حصيلة تجربتهم لم تكن إلا نادراً عمل بناة دول حقيقيين. فشل في إدماج هذه الدول الجديدة في نظام دولي قديم لم يكن يرغب في التخلّي عن أيّ شيء أو المشاركة في أيّ شيء حين دخل إليه الوافدون الجدُد. فشل في توسيع فكرة السلام، والتي أُطلق عليها اسم "التعايش السلمي" من جهة، لتُخلِّف ملايين القتلى من جهة أخرى، في أعماق جنوبٍ قام باختراع أشكالٍ جديدة من الصراعات.
المسألة الثالثة تتعلّق بالنتائج، إذ عقب إنهاء الاستعمار، أدخلت العولمة في غضون بضع سنوات ثلثي البشرية في لعبة دولية كانت قد استُبعدت عنها حتى هذا التاريخ، مع ثقافاتها التي تعود لآلاف السنين، ومشكلاتها الخاصّة بها، وذاكرتها المشحونة بعمليات الإذلال المتكرّرة. كيف يمكننا أن نتصوّر أنّ هذا الاقتحام لا يعدو كونه مجرّد حدث هامشي؟ هل يمكن أن نستمرّ كما لو أنّ شيئاً لم يحدث، فنستحضر دورياً مؤتمر فيينا الذي أبرز بشكل صارخ عام 1815 الصعود الذي لا يقاوم للقوى القديمة؟ إنّ هذا الأمر قد يدغدغ كثيرين في أوروبا أو أميركا الشمالية. ومع ذلك، من الواضح أنّ الوصفات القديمة لم تعد صالحة، وأنّ ما من أحد يربح الحروب اليوم، وأنّ هذه الأخيرة تنحو لأن تدوم إلى ما لا نهاية. من الجليّ أيضاً أن المفاهيم القديمة لم تعد تتمتّع بالأهمية التي كانت لها في ما مضى. فالسيادة، والأمّة، والقوّة، والأرض لم تعد تمتلك المتانة والوضوح اللذين تميّزت بهما سابقاً. إنّ ضعيف الأمس ينتمي إلى الأمس الغابر: إمّا لأنّه أصبح قويّاً، على غرار العديد من الدول الناهضة، أو لأنّ ضعفه يوفّر له الآن موارد هائلة.
يخلص الكاتب إلى أنّه لا بدّ من السعي الجادّ لبلورة نظام عالمي حقيقي، إذ لم يعد من الممكن اليوم تصوّر عِلم يُعنى بالشؤون الدولية من دون بذل هذا الجهد المتواصل والدؤوب لإعادة بناء خصوصية كلّ الفاعلين، مع إعطاء الأولوية لأولئك الذين ينتمون إلى تاريخ آخر. في مواجهة العالم كما هو عليه اليوم، عالم متنوّع ومتفاعل، حان الوقت لإفراد مكان لـ"الدخيل"، ذاك الآتي من "الجنوب"، من المناطق الطرفية، من خارج المجال المعترف به رسمياً، من هذه الأماكن التي لم يتسنّ لها "دخول التاريخ". لقد حان الوقت لاستخدام أساليب السوسيولوجيا التفهمية لكي نتعرّف إلى رؤى وخطط أولئك الذين كانوا يتشاركون الرغبة في دخول نظام لم يكونوا ينتمون إليه.