عندما "يهربد" الوزراء!

هذه "هربدة" أو هو "يهربد"؛ مصطلح شعبي أردني دارج لا أعرف اصله أو فصله، لكنه لمن يعرفه يلخص واقع حال الشخص الذي يذهب به الخيال بعيدا وهو يتحدث عن بطولات أو إنجازات أو مواقف، أو حتى إطلاق تهديدات، فيما مستمعه أو مستمعوه يضحكون في سرهم، أو يشفقون على حاله، وهم لا محالة سيصلون إلى مرحلة الملل والنفور من تواصل هذه الحالة المرضية لمحدثهم!اضافة اعلان
قد تبدو "الهربدة" قابلة للاستيعاب أو يمكن لها أن تثير التعاطف مع من يعانيها عندما يكون شخصا عاديا، ربما مسحوقا نفسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو معيشيا، لكنها تكون مقيتة ومستفزة، وغير قابلة لاستدرار التعاطف، عندما تصدر عن وزير أو مسؤول أو شخصية عامة، كنقابي أو حزبي أو نائب أو غيره، خاصة إذا ما استمرأ ممارسة "الهربدة" في الحديث وقذف مسامعنا ليل نهار بإنجازات واختراقات عظيمة، متوهمة، او مختلقة قصدا، ليثبت لنا ولمن هو فوقه انه يعمل وينجز، وأن أمهات الأردنيين لم تلد مثله، وأنه الرجل الأكثر من مناسب للمكان الأقل من مناسب!
استعراض الصحف صباحا، أو متابعة التلفاز، أو الاستماع لمثل هؤلاء الوزراء "المهربدين" في المؤتمرات والندوات، يبني لك قصورا من الإنجازات والاختراقات الإيجابية التي لا يشق لها غبار، وتوهمك -إن كنت سطحيا أو بريئا كثيرا- بأن هذا الوزير الهمام قد أنهى كل المشاكل وعالج كل التحديات في قطاعه ونطاق مسؤولياته، إلا أن واقع الحال لمن يتابع أو يريد أن يستقصي، وهو "الإثم" الذي ترتكبه الصحافة أحيانا! أو بعض المختصين، أو حتى مراجعة مواطن عادي لوزارة هذا "المهربد" أو خدماتها، يظهر لك حجم التضليل والتدليس والقصور، الذي يعتري عمل وأداء هذا الوزير أو المسؤول.
قد تقبل على مضض، أو تنتقد تقصير المسؤول أو عجزه عن تحقيق إنجازات أو اختراقات أو إصلاح بعض الاعتلالات والمشاكل في قطاعه، لكنك قد تكون كمواطن مستعدا لوضع مثل هذا التقصير في سياقه الطبيعي لهذا السبب أو ذاك، لكن لا تستطيع ذلك مع "المهربد"، الذي لا يكتفي بالتقصير والعجز عن الإنجاز وحل المشاكل، بل ويعتمد استراتيجية تواصل وإعلام مضللة، تستمرئ عدم الصدق في الحديث وبناء الأوهام حوله وحول أعماله، والمراهنة على "هيلمان" منصب الوزير أو المسؤول، ورغبة البعض من المتسلقين والانتهازيين في الوصول عبر تزيين "إنجازات وعبقرية" الوزير، والثناء والتأكيد على ما حققه من أوهام!
ثمة أمثلة عديدة لمسؤولين ووزراء حاليين وسابقين، وربما لاحقين، اتقنوا "الهربدة"، بل وتفننوا بها ووضع بعضهم نظريات فيها، يمكن أن تدرس في الجامعات مستقبلا! تماما كما باتت "الغوبلزية"، نسبة الى غوبلز وزير إعلام ودعاية هتلر، صاحب نظرية "اكذب ثم اكذب فلا بد أن يصدقك أحدهم".
مشكلة "المهربدين"، تحديدا من الوزراء والمسؤولين، أنهم مع مرور الزمن، وكثرة اللجوء إلى "الهربدة" بديلا للإنجاز الحقيقي، تستعصي حالتهم، ويصبح العلاج صعبا جدا، حيث يلجأ العديد منهم إلى مرحلة متقدمة من "الهربدة"، وهي توجيه التهديدات وتوعد كل من يكشف زيفهم علنا ويتحدث عن قصور الوهم التي بنوها، او يعيشون أحيانا شخصية الضحية التي تتكالب عليها مؤامرات الحاسدين والمنافسين وأعداء النجاح!
يمكن للمتابع الحصيف أو المهتم أن يعد أسماء عديدة لنموذج "المهربدين" من وزراء ومسؤولين وشخصيات عامة، فأقوالهم وأوهامهم وتدليسهم تدل عليهم من دون عناء.
يبقى أن نقول إن هذه الظاهرة "الهربدة" تنتعش كلما تراجعت الديمقراطية والشفافية، وتنازلت الصحافة عن دورها وواجبها بالنقد والتقصي والبحث، وهي بالتالي تضمحل وتتراجع كظاهرة، عندما تتقدم الصحافة ومؤسسات المجتمع المدني والنخب الثقافية لممارسة أدوارها بإيجابية وفعالية، وتعرية التدليس والتضليل، وهدم جبال الأوهام والزيف على رؤوس "المهربدين"!