عن أيمن تيسير وأغانيه الممكنة

دافق كنبع ماء بالغ العذوبة والصفاء، انبثق صوته ليلة الأربعاء الماضي في أمسية عمانية ساحرة تضمنها مهرجان صيف عمان.

كان القمر أثناءها هلالا اكتمل على نحو مباغت حين رددت جنيات حدائق الحسين صدى الصوت الرخيم الذي يذكرك بقطيفة مخمل باذخة متروكة هكذا، غير انها تأسرك من دون عناء وتجعلك مأخوذا إلى التأمل في جمالياتها الكثيرة، غير راغب في الاكتفاء.

اضافة اعلان

انه الدكتور ايمن تيسير، هذا الفنان المعلم في كيفية صنع الدهشة،  الحارس الأمين شديد الاكتراث بالموروث الغنائي العربي.

أخذ تيسير على عاتقه منذ البدايات الحفاظ على ملامح هذا الإرث المتفرد من الذوبان في زحمة الرداءة وغمرة التطاول على ذائقتنا التي تربت على الأصالة والجمال، ساعيا في الوقت ذاته إلى تطوير مفردات هذا المورث بما يجعله قريبا إلى مزاج الأجيال الصاعدة المنفتحة على كل الاقتراحات.

أيمن فنان ملتزم بالإتقان والتميز، عاشق حد الغيرة غير العمياء، يعتنق الموسيقى وسيلة مضادة للخراب، ورغم وفائه اللافت للأمس بما حمل، غير انه يراهن بكل ما أؤتي من يقين على الغد. يبدو ذلك جليا في اعتنائه المخلص بالمواهب الشابة خلال الحفلات الدورية التي يقيمها المعهد الوطني للموسيقى، حيث يشرف ايمن على جوقة الغناء العربي المتكونة من مجموعة رائعة من الصبايا والشباب الموهوبين في حقل الغناء, يحرص ايمن على دفعهم لمواجهة الجمهور؛ معززا من ثقتهم بأنفسهم.

وهو في غمرة ذلك، لا ينفك يدعم عثراتهم فيما إذا أخطأ احدهم، مفسحا الحيز كاملا أمامهم للتعبير عن ذواتهم. وها هنا يشعر أي مراقب بكمية الحب المتبادلة بينه وبين هؤلاء الصغار، ولقد تمكن أيمن من توريط الكثيرين بفنه الراقي وحضوره الجميل على المسرح، فتحرص على متابعة حفلاته فئة كبيرة تضم أجيالا مختلفة لا تقتصر على الختيارية! بل يشكل الشباب غالبية غير صامتة من خلال تفاعلهم الصاخب الذي يضفي على الجمال جمالا!

وفي أحيان كثيرة يضيق مسرح مركز الحسين الثقافي عن سيل الحضور الجارف من(السّميعة) المواظبين على متابعة ايمن أينما حل، وهم واثقون أنهم بصدد أمسيات حافلة بالدهشة حين يطل مستحضرا أصوات الكبار من وزن عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان وعبدالحليم وفريد الأطرش وفيروز، مخصصا لكل منهم احتفالية خاصة تمنح المتلقي إضافة للمتعة الكثير من المعرفة. ولا يغفل في خضم ذلك عن الموروث الأردني الثري المتنوع، عاملا على إعادة الاعتبار لهذا الإرث العظيم عبر تحفيز  الذاكرة الحافلة بمخزونها من أغان جميلة حفرت عميقا في الوجدان. كما توقف لدى تجربة الصوفية ملتفتا إلى جماليات الشعر الصوفي وإمكانيات توظيفه في الغناء فاشتغل على مهرجان متخصص في هذا المجال.

لعل دراسة ايمن الأكاديمية وحصوله على شهادة الدكتوراة في علوم الموسيقى متخصصا في الغناء العربي، إضافة إلى مهنته كأستاذ جامعي أضفت عليه هذا الوقار وهذه الهيبة التي تميز حضوره الهادئ والذكي على الخشبة، غير أنه من المؤكد يمتلك (الكاريزما) الضرورية للتمكن من أسر المتلقي وربما دفعه للخروج عن وقاره، مرددا بانفعال وتأثر كلمات الأغنيات التي يؤديها ايمن باقتدار كبير.

ويظل جمهور ايمن العريض في حالة تعطش دائم الى طلته والى إبداعاته على غير صعيد، لأنها تصب دوما في جبهة الدفاع عن موروثنا الثقافي، مساهما في إيقاد شعلة الوعي على نحو دائم بحجم التهديدات التي نواجهها كأمة مستهدفة في عقر ثقافتها.

ويبقى الرهان قائما على أمثال ايمن من فنانين ومثقفين ملتزمين، للحيلولة دون الدمار الشامل الذي يتبرص بإرث إنساني عريق وجد كي يمكث في الأرض طويلا!

[email protected]