عن أي بغداد يتحدثون؟!

ليس من الهين أن تنشر أخباراً مؤلمة عن بلدك؛ العراق، حتى وإن كان موقفك مختلفاً تجاه مجمل القضايا التي حدثت له ما بعد العام 2003. لكن كما يقال، للضرورة أحكام، والغايات النبيلة ينبغي أن نصل إليها بالسبل السليمة، ومنها كشف الحقائق كما هي، وإلا يعز علينا أن نخدش أو نجرح سمعة بغدادنا الحبيبة، وعراقنا الكريم.اضافة اعلان
الإنسان منذ بدء الخليقة استوطن الأرياف والقرى والمدن، وجعلها مستقراً له ولأولاده. ومع مرور الأيام، تطورت المدن وتوسعت.
والمدينة -كما يقول الخبراء- هي وحدة جغرافية، فيها تجمعات سكانية كبيرة وغير متجانسة، تعيش على قطعة أرض محدودة نسبياً، ويعمل أهلها -غالباً- في الصناعة والتجارة والوظائف السياسية والاجتماعية.
ومنذ القدم، وضع الإنسان مجموعة من الخصائص التي تشجعه على الاستيطان في هذه المدينة أو تلك. وهي خصائص تختلف من شعب لآخر، لكن خصائص المدن بالأمس القريب ليست كما هي اليوم؛ إذ إنها كانت خصائص بسيطة، ومن أهمها توفر المياه العذبة اللازمة للشرب، ومناسبة أسواقها لاحتياجات سكانها، وإحاطتها بسور يحميها من الأعداء، ويتواجد فيها أهل العلم والصنائع بقدر حاجة ساكنيها، بحيث تتوفر لها القدرة على الاكتفاء الذاتي، والاستغناء عن الخروج إلى غيرها.
واليوم خصائص المدن لم تتغير ولكنها تطورت. وبالتالي، صار المقياس مختلفا تماماً عما كانت عليه الحياة الإنسانية البسيطة السابقة. ومن أهم خصائص المدن الجيدة اليوم، الاستقرار السياسي، والرعاية الصحية والتعليم، وانخفاض معدلات الجريمة، وتوفر الترفيه والنقل.
والمدن -كما هي حال الدول والعائلات- لها مسؤول، ربما يسمى محافظاً أو أميناً أو عمدة، أو ربما يكون مجلساً بلدياً، وبالنتيجة هؤلاء الحكام هم المسؤولون مسؤولية مباشرة عن تنظيم وترتيب وتحسين مستوى المعيشة في المدينة، عبر المشاريع المختلفة التي تنظم الحياة، وتدعم خطط الأمن والاستثمار.
في مرحلة ما بعد العام 2003، عانت جميع مدن العراق -وما تزال- من ويلات الحروب والفساد والفلتان الأمني. واليوم، لا تُذكر إحصاءات الخراب والدمار والرعب، إلا وتُذكر مدن العراق على رأس القائمة. ولا ندري ماذا حل بهذه البلاد التي صارت تسير من سيئ إلى أسوأ، ومن دمار إلى آخر!
اليوم، تعود بغداد مرة أخرى -وفقاً لتقرير أعدته شركة "ميرسر" للاستشارات- إلى المؤخرة بين 230 مدينة في العالم من حيث مستوى جودة المعيشة. هذا التقرير -الذي صدر قبل أسبوع تقريباً- يعتمد على عشرات المعايير، مثل الاستقرار السياسي والرعاية الصحية والتعليم ومستوى الجريمة والترفيه والنقل، وسبق أن وضع بغداد في العامين الماضيين في المرتبة ذاتها.
لا ندري عن أي بغداد يتحدثون! هل هي فعلاً بغداد التي نعرفها؛ بغداد الأمجاد والحضارة والعلم والرقي، أم التي لا نعرفها، مدينة الجهل والخراب والدمار والمليشيات؟!
نحن نريد أن نتحدث عن بغداد التي بناها أبو جعفر المنصور، ونقل إليها عاصمة الخلافة الإسلامية من دمشق، والتي بلغت في عهد الخليفة هارون الرشيد أوج عمرانها وسيطرتها على أجزاء الدولة المترامية من تونس إلى شرق أفغانستان، ولا نريد أن نتحدث عن بغداد المليشيات والجريمة المنظمة، والنهب والتخريب، لأننا لا نعرف إلا بغداد الجميلة النقية النبيلة.
أعتقد أنها نتيجة طبيعية للسياسات العشوائية، وغياب السلطات الحريصة على البلاد وسمعتها ومكانتها بين الأمم!
لا شك أن بغداد اليوم لا تحلو الحياة فيها. إلا أنها ستعود رغم أنوف الحاقدين نبراساً للعلم والرقي والأمن والأمان. ولن تستمر هذه المهازل إلى الأبد، لأن الظلام لا بد وأن يبدده ضوء الشمس، ونور الحق، وهذا ما ننتظره في قابل الأيام!
وهنا نقول لبغداد ما قاله الشاعر المصري جمال مرسي في قصيدته التي حملت عنوان "فتجملي بالصبر يا بغداد":
صبراً حبيبتنا فهذي محنةٌ
من هولِها تتفطرُ الأكبادُ
لا تيأسي فالضيقُ يأتي بعدهُ
فَرَجٌ، وبعد الابتدارِ حصادُ
ولرُبَّ بائقةٍ يُظَنُّ بُعيدها
موتٌ، فيأتي بعدها ميلادُ