عن الاستقلال ومنظومة أبجد هوز

مالك العثامنة

كنت في مناسبة اجتماعية خارج مدينة بروكسل، أحد الحاضرين متأخرا من جنسية عربية شقيقة تقدم نحوي قائلا: توقعت أن تكون متأخرا مثلي، كنت أتابع حفل استقلال بلدكم الأردن.اضافة اعلان
استغربت اهتمامه فقال لي إن الحفل شده بالصدفة وقد كان يقلب قنوات التلفاز في انتظار زوجته التي تستعد للخروج (الخمس دقائق استعداد التي يعرفها كل الأزواج المعاصرين طبعا).
الحفل شده إلى درجة أنه أعطى زوجته وقتا إضافيا للاستعداد ساعة كاملة (والساعة – كما يعرف غالبية الأزواج- في حساب الزوجات أكثر من ستين دقيقة).
تحدث الرجل عن الحفل الجميل والمرتب – حسب وصفه- ثم توقف عند نقطة أثارتني لأنه لم يرغب بسردها حتى لا يفسد المفاجأة، فقط اكتفى بقوله: شفت الفيديو تبع الشاب الأردني اللي بأميركا؟
طبعا- والحال كذلك- لم يهدأ فضولي لأعرف عن قصة “الشب اللي بأميركا”، وتسللت إلى مكان منعزل عن الحفل لأبحث في هاتفي عن تلك الحكاية لأجدها بسهولة على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت قصة علي الشجراوي الذي تحدث عن سيرة حياته التعليمية والشخصية والمهنية بتكثيف بديع ولهجة محكية “زرقاوية” وخفة دم خففت وطأة القسوة في بعض المشاهد.
حديث “علي” الذي تداوله الأردنيون - وما يزالون- وقع في مطبات جدل التعليقات والتوظيفات المتفاوتة بين السخرية والإعجاب، بالنسبة لي كان إعجابا بالشاب وحديثه وقصته، لكن من جهة أخرى فإن حديث “علي” كان يحمل دلالات مهمة على سردية المشهد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي التي يعيشها الأردنيون، ومن اللافت – عندي على الأقل- أن حديثه كان الأكثر تجليا لدولة دخلت مئويتها الثانية وتحتفل بعيد استقلالها.
قصة “علي” حملت في ثناياها وما بين سطورها إخفاقات الدولة أيضا. وهي إخفاقات يتحمل مسؤوليتها الجميع بلا استثناء.
علي الشجراوي، أردني من عائلة أصولها من الشمال الأردني “شرق النهر”، وهو كما عرف بنفسه من مدينة “الزرقاء”، المدينة التي أنتمي أنا إليها أيضا ولادة وتنشئة، وهي مدينة يتيمة في معايير الانتماء، مواليدها وأهلها يتبرأون منها فورا حال تلقيهم السؤال الأردني التقليدي : من أين أنت؟.
هو ابن عائلة من الطبقة الوسطى حسب ما فهمنا من حديثه، والده كان يعمل في القطاع العسكري، ووالدته معلمة مدرسة.
الشاب “علي” في سرديته الممتعة تحدث عن والده وقصة الحذاء الطبي الذي كلفه ثلث راتبه حينها، واستكمل سرديته بالحديث عن أهمية العلم والمعرفة التي زرعها والده في أبنائه كطريق “وحيد لمن هم مثله “ للنجاح في حياة قاسية ضمن ظروف تشتد قسوة في بلد محكوم بقسوة الجغرافيا والموارد.
اللغة الإنجليزية والتحدث بها بإتقان كانت حاجزا عاليا أمام الفتى حين قرر القفز العالي وتلقي التعليم رفيع المستوى في مدارس “الكنجز أكاديمي”، وكرر محاولة الوثب العالي وقد تزود بزانة المعرفة باللغة عبر جهد شخصي لمدة سنة كاملة فأنجز قفزته العالية الأولى، والتحق بالمدرسة المشهورة بأقساطها الباهظة ومناهجها التعليمية الدولية وطبقيتها التي سمحت لأبناء الموسرين “الموسرين جدا” الالتحاق بها.
(.. وقد قيل لي بعد السؤال عن المدرسة أنها تعطي منحا دراسية كاملة لأعداد كبيرة جدا من المتميزين في المملكة).
إذن، في الجانب الآخر للقمر، ذلك المعتم الذي لا نراه بعيوننا، نحن امام تعليم “عمومي” سيئ في اللغة الإنجليزية، وسيئ أيضا في تقديم باقي المعارف الضرورية لاقتحام العالم الذي نعيشه.
ونحن أيضا أمام شاب هو استثناء من مجموع عام يتلقى كل ذلك التعليم السيئ والرديء، في منظومة تعليمية حكومية وصل فيها معلم المدرسة “الحكومي” إلى أدنى درجات السلم الاجتماعي بحكم القهر المعيشي وضيق الحال والأجيال الجديدة منه هي نفسها إنتاج تعليم رديء وسيئ وبلا طموحات.
السؤال الذي يلقي بنفسه في حضن كل أركان الدولة الأردنية التي تحتفل بمئويتها الثانية واستقلالها المجيد “وهو مجيد فعلا”: لماذا لا تكون كل مدارس المملكة بمستوى “كنجز أكاديمي”؟ ما الذي يمنع أن تعمل الدولة بكل أجهزتها وقدراتها ومقدراتها على النهوض بالواقع التعليمي الرديء وإعادته إلى ما كان عليه ذات توهج “معرفي” انطفأ فجأة؟
أنا من جيل يتقن معظم أبنائه اللغة الإنجليزية مثلا، وكانت مناهجنا التعليمية معرفية إلى حد كبير يناسب زماننا الذي عشناه في المدارس، وبدلا من تطور المنهجية المعرفية وجدناها تنسحب من قطاع التعليم الرسمي الذي أصبح أجوفا مليئا بالحشو والدجل لينتهي التطور في مدارس خاصة يهرب إليها كل من استطاع إلى دفع رسومها سبيلا. وسيدهشني إن كان أي من مسؤولي الصف الأول في الدولة الأردنية له أبناء أو بنات في المدارس الحكومية! دهشة تصل حد التحدي بوجود حالة واحدة.
تعريف الشاب “علي” لنفسه أنه من مدينة الزرقاء، رسالة “مطمئنة” بإعادة الاعتبار لمفاهيم الانتماء الاجتماعي، ولا أعرف إن كان الشاب المبدع يقصد ذلك أم هي صدفة، لكن الشاب المحترم والدمث والناجح في عمله خلف الأطلسي، تحدث بلهجة تلك المدينة التي شكلت “بوتقة انصهار” اجتماعي تجعلني أفكر فيها كمدينة “اندماج مجتمعي” بامتياز، والفرق بينها وبين العاصمة عمان، أن مدينة الزرقاء بحكم تكوينها الاجتماعي لأسر الطبقة المتوسطة والكثير من جيوب الفقر لا يمكن أن تشهد طبقات “مخملية” كما في العاصمة، طبقات تم خلق مؤسسات ومدارس ومراكز تسوق وأحياء بالكامل لها تفصلها عن باقي المجتمع الأردني.
الشاب علي، ابن الزرقاء، لم يقفز فوق حاجز التعليم وحسب، بل فوق حواجز اجتماعية شاهقة تجعلني أتخيل حجم صراعاته الداخلية والذاتية في الاندماج الاجتماعي مع أقرانه في مدرسة كنجز أكاديمي.
ما المشكلة في أن تنتفض الدولة لتتحول منظومتها التعليمية الرسمية إلى ذات سوية تلك المدارس الخاصة، لنبدأ بتصدير الفائض من كل “علي شجراوي” ممكن إلى العالم، مسلح بمعرفته وعلمه، أقول الفائض لأن المخزون الأساسي من الإنتاج سيكون هو “الاستقلال” الحقيقي لدولة أثبتت وجودها وحضورها على مدار قرن كامل بكل تحدياته.
يتحدث الملك في أوراقه النقاشية ثم في سياساته عن طموحه بدولة ديمقراطية تنتهج الحزبية فيها مسارات تداول السلطة والحكم، وهذا طموح مشروع لأردن جديد واجب الاستحقاق بعد المائة الأولى من عمر الدولة فيه، لكن هذا لا يتحقق ولن يتحقق إلا بمنظومة معرفية وتعليمية قادرة على أن تعبئ الفراغ في المشهد.
فراغ امتلأ بالحشو السياسي والإعلامي وكثير من التعثر الاقتصادي بينما شاب واحد فقط، استطاع أن يقفز من الزرقاء إلى عالم جديد أبجدياته معرفية بالمطلق، ولولا حاضن تعليمي له لما استطاع الوصول.
ما يثير أكثر أن التجربة كانت وشيكة على التحقق في الثورة على الواقع التعليمي البائس، لكن معاركنا السياسية الجوفاء قضت على التجربة من أولها.
وللتوضيح، أورد قصة شخصية:
قبل أعوام، وفي ذروة الاحتجاجات السياسية التي وصلت حد كسر العظم بين نقابة المعلمين والحكومات، كنت منزلقا في الانحياز للمواقف الشعبوية ومصدقا لمظلومية “قيادات” القطاع التعليمي الرسمي، وكتبت مقالات هاجمت فيها كل خصوم نقابة المعلمين مبتلعا كبسولات “الشعبوية” البائسة المتخمة في وسائل التواصل الاجتماعي، وكتبت مقالا في “الحرة” أهاجم فيه أكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلمين، والتي خضت مع الخائضين في شيطنتها.
نبهتني صديقة عزيزة أثق بها وبمحبتها ورجاحة عقلها إلى ان مقالي جميل ومؤثر، لكنه ناقص مهنيا حيث إنى لم أتواصل فيه مع الأكاديمية للحصول على أجوبة في ما طرحت من تساؤلات!
بعد أسابيع من المقال “الذي كان شعبويا بامتياز وتداوله الأردنيون كثيرا” شعرت بخطأي المهني، فقمت بالبحث والقراءة ثم التواصل مع رئيس الأكاديمية الذي عرض الحوار عبر تقنية “الزوم” وكان ذلك.
فاجأني الدكتور أسامة عبيدات الذي كان يتحدث بأدب وتهذيب شديدين، أنني أول صحفي يتواصل مع الأكاديمية، ثم أدهشني بحجم الأخطاء في المعلومات التي وردت في مقالي، مبرزا كل الأرقام والمعلومات الموثقة التي تبرهن ضرورة حضور مراكز تدريب وتأهيل كتلك لتعويض الخلل الكبير والفادح في موارد التعليم البشرية.
فلنواجه واقعنا: المعلم الأردني “الحكومي” ضحية تعليم رديء، وهو أيضا ضحية حياة معيشية أكثر رداءة، وخريجو الأكاديمية الذين تلقوا التدريب الكافي للتعليم الحديث والعصري، استطاعوا تحقيق التطور المعيشي عبر عقود عمل في مدارس الخليج المتطورة أو في مدارس أردنية خاصة.
التجربة تعرضت للهجوم لاعتبارات سياسية عبثية “أعترف أني انزلقت فيها” وقد كتبت مقالا بعد ذلك بدأته بالاعتذار للقارئ عن تضليلي له وأوردت ما حصلت عليه من معلومات عن الأكاديمية، المدهش والمفاجئ أن مقالي التصحيحي لم يلق رواجا، وتلقيت التهم بعده بأني “غيرت خطي”.
فلنكن واضحين هنا: أنا كاتب صحفي وصحفي يمتهن المهنة، ولست سياسيا. وعليه، فإن خطي متغير بتغير المعلومات والحقائق التي تردني.
أنا مهاجر أقيم وأعيش وأعمل في بلجيكا، ولي ابنة وحيدة في الصف الرابع، وهي تتحصل على تعليمها في منظومة تعليمية ممكنة الحدوث في الأردن، لو توفرت الإرادة.
هكذا يمكن الاحتفال بالاستقلال الأردني، ودخول الدولة مئويتها بثبات، وإلا فإن الرسالة الوحيدة التي يمكن استخلاصها من قصة “علي الشجراوي” أن الهجرة هي الحل لكل الأردنيين “الأقل حظا”، وهم الأغلبية التي ننتظر صوتها في صناديق اقتراع تنتج أحزابا وتيارات وحكومات ومجالس ومؤسسات.. لتصنع الدولة.