عن البدر الذي غاب

فاض مسرح المركز الثقافي الملكي بالكثير من أصدقاء ومحبي بدر عبدالحق، في حفل التأبين الذي أقيم الأسبوع الماضي في وداع أخير لروح بدر التي شرعت في الرحيل نحو غياب نهائي وحاسم هذه المرة.

اضافة اعلان

كلمة صادق عبدالحق، الشقيق الأكبر، كثفت الكثير من ملامح بدر؛ طفلا شديد الفضول، محبوبا ومقربا للوالد الشيخ رب العائلة الكبيرة التي تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، حيث يحتل التحصيل العلمي أهمية كبرى كوسيلة أمان وحيدة في مواجهة عثرات الزمان، عبرت كلمة صادق وهو الزميل والمعلم الأول لبدر في(حركشاته) الأولى مع الحياة عن الكثير من ملامح الصبا من حيث الالتباس المعرفي والوجودي لطالب كلية الشريعة في جامعة دمشق الذي كشفت قادمات الأيام عن انه علماني الهوى تواقا الى التحرر مما يكبل العقل من محاذير واعتبارات. 

جسّد صادق بكلمات قليلات صورة بليغة لبدر، شابا عن طوق المألوف والسائد، ساعيا بدأب كي يحدد فيما بعد علامته الفارقة كمبدع قوي الحضور على الساحة المحلية والعربية في فضاءات متنوعة على صعيد القصة القصيرة والمقالة والترجمة.

عبرت ميس كبرى بناته في كلمة مكتوبة بشكل غير تقليدي فخلت كلمتها الدافئة من تلك العبارات المنشأة التي تقال في مناسبات كهذه، ميس قالت كلمتها باللهجة المحكية بحميمة وصدق وعفوية، كما لو كانت تهمس بوجعها في أذن صديقتها المقربة، فلمست القلوب وانتزعت التأثر من الجميع، لأنها حكت هكذا ببساطة ومن دون تكلف عن بنت تودع أباها الذاهب بعد رحلة ألم وعناء طال أمدها مشاركة اصدقاءه لحظات حميمة من ذكريات تخصها وشقيقاتها وحدهن، لكنها كانت من السخاء بحيث مكنتنا من استراق السمع الى صوت بدر غير الشجي! ولكن الحنون آتيا من زمن نأى وأمعن في الغياب، يغني لصغيرته""يلا تنام""، وجعلتنا ننبش في أوراقه ونستعيد نحن قراءة مقالة قديمة كان موضوعها بناته الثلاث: وسن وميس وسمر، ونحن نعرف جيدا كم كان بدر شديد الاعتزاز بهن، حين يرد بخفة ظله المعهودة على لقب ابو البنات الذي ناله عن استحقاق يليق برقة قلبه بأن لديه بنتين وبنتا، وذلك من باب تخفيف الصدمة على المتلقي!   

بين صورة الابن التي استحضرها صادق بحنين بليغ، وصورة الأب الذي اتقن ابوته فصار معلما في عتمة المسرح الذي اضيء بصورة بدر على عرض الشاشة ترافقها معزوفة لطارق الناصر، بزغت ذكرى بدر كما اعرفه اقصد قبل ان تبدأ ذاكرته اولى خطوات التوهان خلال ما يقارب الخمسة عشر عاما، آنذاك كان حضور بدر بديهيا مثل قهوة الصباح، على صفحات "الرأي" كشاهد عيان، وفي رابطة الكتاب كان عضو الهيئة الادارية الذي يجمع الكل على محبته بسبب مهارته في النأي عن الخصومات الصغيرة، وفي مكتب المحامي صادق عبدالحق في "شارع الجاردنز" حيث الحوارات الصباحية الضاجة بالحيوية، وفي اروقة مدرسة الجامعة النموذجية، حيث الفرصة للقائه وزوجته سلامة واردة دائما،  حين تندفع يارا صغيرتي آنذاك نحو صديقة طفولتها المقربة وسن تتبادلان الخبرات حول افضل الوسائل لابتزازنا.

وفي حين تبدي سلامة حزما اكبر في تعاطيها مع شؤون الصغار المدرسية، يبدو بدر اقل اكتراثا وأكثر تسامحا بشأن بضع علامات لا تغني عن ثقة اكيدة بتميز صغيراته على الدوام.

قلت له مرة ممازحة، تعليقا على كثافة المصادفات التي تجمعنا: احدنا محظوظ يا بدر وعلى الارجح فهو انت! فأجاب على الفور: انا محظوظ اكيد، وانت من دون شك محسودة!! هكذا كان بدر فيما مضى، وهكذا احب ان احتفظ بذكراه، مبدعا شديد الذكاء، سريع البديهة لدرجة تثير الغيظ، لماحا يلتقط الفكرة بمهارة غير مسبوقة، والاهم من كل ذلك كان رجلا عقد صلحا طويل الأجل مع الحياة رغم اصرارها على خصومة أوقعت بكل من عرفه خسارة جسيمة غير قابلة للتعويض.

[email protected]