عن "الفيسبوك"

ليس مبالغة أن نتحدث كثيراً عن الفيسبوك؛ إذ يكفي أن تسأل أي شخص مر من جانبك الآن عن حجم الوقت الذي يُسخّره له، لتدرك أنه صار -مثل التلفزيون في الثمانينيات- فرداً من العائلة!اضافة اعلان
وربما الفرد الأكثر وجاهة في العائلة؛ كونه الوحيد الذي يثق به جميع أفرادها، ويضعون كل أسرارهم لديه.
من حيث الوصف لم يعد الفيسبوك افتراضياً؛ فقد تفرعت عنه (عشائر) و(عائلات كبيرة) كلهم يحفظون أرقام بعضهم الهاتفية، وعناوين بيوتهم، وأغلبهم تزاوروا والتقوا، بل إن زواجات كثيرة، وطلاقات أيضاً، نجمت عن الفيسبوك، فضلاً عن الصداقات والشراكات العاطفية والتجارية والثقافية والسياسية وو.. لذلك لم يعد هذا المكان متخيلاً، بل هو مكان معروف، له عنوانه، يقصده الناس، وهناك يجلسون للثرثرة، وتتوفر لديه أيضاً خاصية الوشوشة، ثم بإمكانك أن تعبر من خلاله مع صديق آخر لتهبطا على الأرض في خمس دقائق!
الفكرة معقدة من حيث الخيال؛ لكنها حقيقية؛ تماماً مثل فكرة الطائرة التي حتى بعد أن تركبها خمسين مرة تظلّ تفكر وانت فاتح فمك ببلاهة: كيف تطير كومة الحديد هذه لا تقع على رؤوس الناس!
الفيسبوك كذلك لم يعد الجزء الأكبر منه مخيلة بحتة كـ”الايميلات” مثلاً، أو جهاز الفاكس، بل هو حقيقة عملية جداً، وبالنظر الى تركيبته الاجتماعية نجد أن الفيسبوك ليس صورة للمجتمع، كما يوصف اعتباطاً؛ بل هو المجتمع في أقصى حالات تحقّقه، ومركزيّته، حيث حمل الناس إليه مناسباتهم فصاروا هناك يحتفلون بأعياد الميلاد والخطبة والنجاح والتخرج بل ويفتحون بيوت عزاء رصينة، كما يتعاتب الناس إن قصَّر واحد في التزاماته الاجتماعية هذه، وهناك نميمة وغضب وانفعال وقطع علاقات، وبشر يلتقون بغائبين بالصدفة، وآخرون يعلنون عن مفقودات أو تجارة، وهناك طبقات اجتماعية، ومنازل للناس؛ فكما في المجتمع رجال أعمال ومراهقون وطلبة وشعراء وسيدات مجتمع، هناك أيضاً “سيدات فيسبوك” وفقراء ومنبوذون ومتسكعون يجلسون على زوايا الصفحات يتحرشون بالعائدات من صفحاتهن في وقت متأخر، وهناك مجموعات مغلقة تشبه الخلايا الحزبية، واجتماعات سرية، ويافطات وتظاهرات، واعتصامات، وعمل جماعي منظم مثل توحيد صور البروفايلات، أو الدعوات للتصويت لشخص معين أو مقاطعة بضاعة معينة.
وهناك، أيضاً، يولد مبدعون وفاشلون ودُعاة ونساء سيئات السمعة، ونخب محترمة لها أنصارها وأتباعها، وعيادات طوارئ حيث يهب الكل لنجدة الواحد، إن صابه عَرَضٌ أو اشتكى من مرضٍ أو طالته إشاعة أو ابتُلي بسوء. بل إن قمة الواقعية في وجود الفيسبوك أنه صار أرضاً حقيقية يلقى القبض على من يستخدمه للشتم أو التعريض أو التحريض ويساق من هناك للمحكمة أو السجن!
كل ذلك بالمناسبة قضى على الفكرة التي كانت خلف الفيسبوك من الأساس؛ أو التي توهمناها؛ وهي أن يكون شرفة للحياة، ملاذاً، تخففاً من الأعباء وهروباً من الالتزامات مثل أن تذهب للمقهى، لكن ذلك لم يتحقق، فأنت الآن في الفيسبوك محاطٌ برزمة من الواجبات الاجتماعية التي جئت هارباً منها، وعليك أن تهنئ فلاناً وتعزي فلانة وتزور آخر وتبدي إعجابك بملابس أخرى.
أنت لم تخرج إذاً! أنت في غرفة أكبر فقط، وأبناء عمومتك ازدادوا فجأة!