عن بساطة تنقرض

كانت أياما باذخة ببساطتها، صحن الفول بقرشين، وإبريق الشاي بثلاثة، وكيلو اللحمة بأقل من نصف دينار، و.. عائلة من تسعة أفراد، تعتاش على راتب لا يتجاوز عشرة دنانير، وتقطن بيتا أجرته ديناران. اضافة اعلان
اليوم، لا يمكن أن تتحدث عن هذه الأرقام في حساب العيش، إلا ويتهمك أحدهم بأمر ما له علاقة بالعنقاء والخل الوفي. أضحى العيش مجردا من بساطته، قيمته في مظهره، وصورته المزدوجة كأرواحنا التي تبحث عن البساطة في شق منها، وترتع في التعقيد في شقها الثاني.
كل شيء أضحى مرتهنا للتعقيد: الحمص والفول والفلافل والشاي واللحم، يمكن أن تتناولهما في مركبة فضائية، المهم أن تكون معقدا، وقد تحصل على وجبة فلافل بأجرة عامل مياومة، بشرط أن تحمل رتبة من التعقيد، بنما تشكل وعيك غيمة من صائغي مثل هذه الرتب والدرجات.
نعم دحرجنا الزمن، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من عدم التفات لما خسرناه. لقد خسرنا أكثر مما نظن، الكثير من الأحلام، والكثير من الاوهام أيضا. فالبساطة وهي تكمل نقصاننا بالنقاء والحرية وعدم الارتهان لمقتضيات عيش هادئ وهانئ، انقرضت، ليقودنا التعقيد الذي نتمتع بسقوطنا فيه إلى الخوف مما سيأتي. نعم خسرنا البساطة، خسرنا هناءة العيش، خسرنا الحلم بمستقبل مشرق لأبناء سرقهم اللهاث وراء تركتنا الثقيلة من التعقيد.
أضحت صورتنا المركبة داخل إطار فولاذي، مشحونة بملمح وجودنا القلق، وصورتنا التي تتربى عليها كل ضرائب هذا التعقيد.
وإذا رأينا أن الأمر يتعلق بسعر صحن الفول أو ثمن إبريق الشاي، فنحن تورطنا في التعقيد أكثر، أعني أن السير قدما نحو التعقيد، بات يخرب معنى الجمال الذي ينبثق منا، وينتهك البساطة التي أغدقت علينا في أزمنة ماضية.
فمثلا، دعونا نراقب شارعا ما، لنرى كم امرأة ورجلا يرتدون زيهم الوطني. لن نجد أحدا يفعلها، في المقابل، سيلهث بعض المتزلفين للحديث عن التطور والتقدم والحاجة إلى التغيير، ويدندنون بعدم الحاجة للزي الوطني، لأنه يعيق حركتهم عن العمل، بينما ما تزال شعوب كثيرة ترتدي زيها الوطني وتعمل وتنتج بهمة ونشاط كبيرين.
في البساطة التي عشنا جزءا ضئيلا منها، كنا مسكونين برغبة جامحة في التغيير، ونحتفي بجمال اللحظة التي ستأتي وهي تحمل على أكتافها تقدمنا وتطورنا، لكن تحت شرط الإبقاء على أصالتنا التي لم نعد نعرفها أو نسمع عنها اليوم، إلا في أغان سطحية ساذجة، أو عن طريق صور بالأبيض والأسود، تحاول انتزاعنا من غفلة الزمن، لتقول لنا إننا كنا هكذا: بسطاء. لا نركض وراء منصب هنا، أو جاه هناك، لاننا مكتملون بما نحن عليه، ولا نشعر بعقد نقص أو خواء مظهر أو زيف معنى. 
فكم سنحتاج من الوقت لكي ندرك أننا لم نتغير، بل زدنا تعقيدا؟ كم؟