عن مفهوم "المستعمرة" في فلسطين..!

علاء الدين أبو زينة لفتتني الفكرة في خطاب الدكتورة حنان عشراوي لمؤتمر عقد في أميركا مؤخراً، حين قالت: “اعترفت إدارة ترامب بالضم وفرضته، وفي المقام الأول ضم القدس. كانت هذه هي الخطوة الأكثر فظاعة – ليس فقط لأنهم اعترفوا بالضم؛ لقد نقلوا سفارة الولايات المتحدة إلى هناك. نحن نسميها مستوطنة الآن. لدينا مستوطنة أميركية في القدس”! للوهلة الأولى تبدو هذه الفكرة متقدمة: اعتبار أي هيكل أجنبي يُقام على “الأراضي الفلسطينية” مستوطنة غير شرعية، مع مستوطنات الصهاينة في الضفة الغربية. ولكنْ، سُرعان ما يتبين وقوع هذه الفكرة في نفس فخ المفاهيم والتعريفات التي تجنّت على حقيقة المسألة الفلسطينية وقطعت أطرافها. كيف؟ يقترح هذا التعريف، بداهة، أن السفارة الأميركية السابقة في تل أبيب لم تكُن مستوطنة، وأصبحت كذلك فقط عندما نُقلت إلى القدس. ويتبع ذلك التسليم بأن أي هيكل مقام –أو مصادر- على أراضي فلسطين التاريخية –باستثناء الضفة وغزة- هو هيكل مشروع وليس مستوطنة –أو الأدق، مستعمَرة. والمصادرة الأساسية في هذا الفهم هي أنه يتعارض مع التعريف المبرر للكيان الصهيوني بأنه “مشروع استعماري-استيطاني” كما هو، ويذهب به إلى فئة “احتلالي”، باعتبار أن هناك دولة راسخة مشروعة، “إسرائيل”، تحتل أراضي الجيران، وتصبح مبرأة من كل عيب ومسؤولية بمجرد الانسحاب من تلك الأراضي. يُذكر هذا الموقف بفكرة قسم مما يُدعى “اليسار” في الكيان. هناك، يقيم اليساري المعنيّ في بيت مغتصب بناه فلسطينيون في يافا وأخرجوا منه عنوة، ويقول إن على “إسرائيل” إنهاء احتلالها وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم. ولا يريد معظم هؤلاء الإشارة إلى أن البيوت التي يقيمون فيها مستوطنات، أو مستعمرات مسروقة من أصحابها الشرعيين وينبغي الخروج منها وإعادتها إلى أصحابها! في الأساس، كل بيت، وشارع، وحي وحقل يقيم فيه الغرباء هو مستعمرَة، أو مستوطنة، إذا كان ذلك يهم. إنها كلها أملاك تاريخية لشعب طرد منها وأُخذت منه بالقوة. وبذلك، فإن فلسطين التاريخية كلّها “مستوطنة” أو مستعمرة كبيرة واحدة. وكانَ أكبر فخاخ الخطاب الاستعماري قصر هذه التسمية على المباني التي يقيمها اليهود في أراضي 67. ما الفرق بين الأحياء اليهودية في اللد أو الرملة والأحياء في الضفة، من حيث النشأة والطبيعة والطريقة والتأثير والأهداف وأي شيء، بالنسبة للفلسطينيين؟ حسب التعريفات القاموسية، “المستعمَرة منطقة تخضع لشكل من أشكال الحكم الأجنبي. وعلى الرغم من هيمنة المستعمِرين الأجانب، تظل المستعمرات منفصلة عن إدارة البلد الأصلي للمستعمِرين، الدولة الحضرية”. وقد “أقامت الأمم المستعمرات لأهداف استعمارية، مثل التوسع الزراعي والتجاري، وتوفير أسواق جديدة للسلع المصنعة، ولكسب مصادر جديدة للمواد الخام، ولتأمين مكاسب عسكرية وإضفاء هيبة على الدولة المستعمِرة”. تصف هذه التعريفات الشكل التقليدي للاستعمار، حيث تستعمر دولة قائمة منطقة يمكن أن تنسحب منها لانتفاء مبرر الاستعمار، أو عندما تصبح كلفته أكثر من مكاسبه. لكن الاستعمار الصهيوني في فلسطين استيطاني إحلالي، يقيمه كيان أتى من العدم وليس له “دولة” ينسحب إليها. وتجعل هذه الشروط بقاءه وجودياً، مشروطاً بنفي الشعب صاحب الأرض؛ تطهيره عرقياً وطرده وإلغاء علاماته الحيوية كشعب، وفي النهاية شطبه من الوجود. عندما يتعلق الأمر بالمستعمَرة الأميركية في القدس، فإن بالإمكان بسهولة توسيع هذه المستعمرة الأميركية. من المعروف أن الشرط الأساسية لبقاء المستعمرة الصهيونية في فلسطين التاريخية، هو دعم الولايات المتحدة. وإذا تذكرنا الدور الأساسي الذي أسنده أميركيون للكيان الصهيوني (مثل أنه يوفر على الولايات المتحدة إرسال مئات آلاف الجنود لإخضاع المنطقة)، فإن الكيان يخدم كقاعدة متقدمة لأميركا. وإذا كانت الولايات المتحدة هي التي تُديم المستعمرة العسكرية العدوانية وتمولها وتحميها وتستخدمها، فإن فلسطين في النهاية مستعمرَة أميركية. وإذا كان الكيان الاستعماري الصهيوني لن يصمد من دون أميركا، فإن شرط تحرر فلسطين هو انسحاب الولايات المتحدة من مستعمرتها الشرق-أوسطية، وفق صيرورة الاستعمار التقليدي. وأيضاً، يمكن قبول فكرة أن فلسطين مستعمرة أوروبية في الأساس، باعتبار أن أوروبا (ممثلة ببريطانيا أولاً)، هي التي أسستها وأخضعت أهلها، وساعدت هجرة مواطنيها اليهود إليها واستيطانها وتأهيلها لجلب بقية اليهود الراغبين. إذا ما أراد أحد توخي الدقة التاريخية ويقيم القضية الحقيقية، فهي أن فلسطين التاريخية مستوطنة، أو مستعمرة كبيرة واحدة. وسوى ذلك إسهام في اغتيال الشعب الفلسطيني. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان