"عوالم خفية".. حينما تكشف الصحافة الفساد المستشري بأشكاله

مشهد من مسلسل "عوالم خفية"- (ارشيفية)
مشهد من مسلسل "عوالم خفية"- (ارشيفية)

رشا سلامة

عمان- يكاد المتابع لمسلسل الممثل المصري عادل إمام "عوالم خفية"، في رمضان الحالي، يتنفس الصعداء هذه المرة؛ إذ بالوسع قول إنه لم يحد عن جادة الصواب الفني والمنطقي مثلما كان الحال عليه في الأعوام السابقة.اضافة اعلان
أفلح المؤلفون الشباب أمين جمال ومحمود حمدان ومحمد محرز في جعل نقطة الانطلاق حكاية مشابهة بل تكاد تطابق حكاية الممثلة سعاد حسني التي تدور شبهات حول قتلها في لندن بعد أن همّت بكتابة مذكراتها، التي تطال رموز النظام المصري السابق، وإن كانت المصادفة التي أوقعت الكتاب المخفي في يد الصحفي المعارض، الذي قام بدوره إمام، لم تكن مقنعة كثيرا؛ إذ لماذا لم يقع في يد مواطن عادي مثلا ممن يرتادون بسطات الكتب، كما أن المصادفات بحد ذاتها تضعف العمل الفني وتظهر حبكته بالركيكة.
المخرج رامي إمام قدم عملا على سوية عالية، وهو في هذا لا يختلف كثيرا عن سوية التمثيل العالية لدى شقيقه محمد إمام، الذي لم يشارك في هذا العمل بل شق طريقه وحده، ما يجعل من نظرية التوريث الفني إيجابية في حالة إمام وعائلته؛ إذ إن مدخل الأبناء لعالم الفن جاء من منطلق الموهبة لا الواسطة أو الاتكاء على أمجاد الأب.
يحسب للمسلسل أنه تطرق لجزئية كانت مفتقدة لدى إمام، وهي تهمة التطرف المعلبة، التي باتت تطال كل من لا يروق له أحد ما، فيضمن حينها أنه قذف به لما وراء الشمس. وإن كان هنالك لعب ذكي، كما هو دأب إمام، على رسم صورة كل من يتبع النظام؛ إذ ما إن يشيطنه لثوان حتى يعود لتصحيح الصورة من جديد، ما يوقع المشاهد في حيرة، لا سيما إن لم يكن يعلم "لعبة" إمام التاريخية منذ زمن طويل: انتقاد النظام وضرب طاقيته، ومن ثم تعديلها على الفور. وهو ما لم يكن بعيدا أيضا، حين لعب إمام دور الصحافي المعارض، وفي الوقت ذاته سخر من الصحافة المعارضة ومن ينتقدون تكميم الأفواه.
يذكر أن تناول التنظيم الإرهابي في العمل كان سطحيا؛ من حيث انحراف رئيس التنظيم ومعاقرته المخدرات، والملابس التي يرتديها منتظمو الجماعة عدا عن الإطار النمطي القريب من نظرة الغرب إلى الشرق، حين يصرخ أحد أفراد الجماعة الذين يعتلون الأسوار للحراسة "حكومة حكومة" بطريقة كاريكاتيرية، وإن كانت الجولة مرسومة لصالح النظام؛ إذ يقضي رجاله على منتسبي العصابة المتطرفة، ولا يصاب من رجال النظام هؤلاء سوى الضابط المكلف، لكن إصابته غير مميتة رغم ترنحه. ولا يمكن قراءة هذه الإشارة في سياق آخر: إمام، الذي يعد مرآة النظام الفنية وهنا تكمن أهمية أعماله مهما انحدر مستواها سابقا، يرسل رسالة مفادها: النظام سيتغلب على أي شغب حاصل من قبل هذه الثلة، حتى وإن سجلوا بعض الانتصارات الجانبية هنا وهناك.
العالم الصحفي، وتحديدا الصحافة الاستقصائية، كانت ميدان المسلسل، وهذا يحسب له؛ إذ إن قضية حرية الصحافة وغياب الجانب الاستقصائي عنها ضروري، وإن كانت هنالك ثغرات عدة في هذا السياق منها تنطح إمام لدور الصحفي المستقصي وفي الوقت ذاته لعب دور رئيس التحرير وقلما يحدث هذا، بالإضافة لعامل العمر الذي لم يخدم إمام في هكذا مهمات صعبة، عدا عن معضلة المصادفات التي جرى التطرق إليها أعلاه مثلما حدث حين لحق بأحد الشهود في لحظاته الأخيرة قبل الوفاة أو حين جعلته المصادفة يلمح طفلا تعرض للتعذيب في دار الأيتام دونا عن غيره، بالإضافة لخلل ظاهر في رواية بعض الحكايات الواردة في المشاهد منها حكاية الظلم الذي وقع على المتهم زورا في قضية المستوردات الطبية التالفة، فكان تارة يتحدث بصفته الشخصية ليروي الظلم الذي حاق به وتارة بصفة الراوي العليم الذي يسرد بدقة كيف حيك له المقلب في ليلة ظلماء، وهو ما لا يستقيم البتة. 
بالوسع قول إن الفساد كان هو المحور الذي قام عليه المسلسل، الفساد على الأصعدة كلها إداريا وصحيا وتربويا وسياسيا وقضائيا، وهذه بحد ذاتها نقطة قوة مركزة رفعت العمل للأعلى رغم الهنات.
في ما يتعلق بجزئية الصحافة الاستقصائية ودورها الجبار في كشف الفساد في مجتمعات متقدمة، يلوح فيلم "ذا بوست" للمخرج ستيفن سيلبريج، الذي أثيرت حوله ضجة كبرى قبل أشهر، والذي يتناول دور الصحافة في كشف قضية كذب النظام الأميركي في ما يخص الحرب على فيتنام، لكن البون يبدو شاسعا؛ إذ إن سيلبريج كان ملما بأخلاقيات المهنة وتعقيداتها وأصولها وكل ما يتعلق بها، فخرج عمله مقنعا لمن يخبر عوالم الإعلام ودواخلها.
 لكن "عوالم خفية" استسهل الأمر، فكان الصحافي فيه يكيل الاتهامات علانية ويهدد الفاسدين بالسجن ويستخدم تلميحات صريحة وواضحة قد تدخل في ميدان القدح والذم والتشهير؛ ذلك أنها من دون أدلة حتى وإن كانت صحيحة، وحتى وإن كانت الذريعة أنها محض رموز وتلميحات، لكنها مكشوفة وهذا بند بحد ذاته يدرسه الصحافي والإعلامي تحت اسم أخلاقيات الصحافة وقوانينها عدا عن إشكالية تعريض حياة أشخاص للخطر في سبيل أخذ تصريحات منهم مثلما حدث مع المتسولة التي قتلتها عصابة الاتجار بالأطفال بعد أن ثبت اعترافها لإمام، ما يجعل من وقوع رئيس تحرير بهذه القامة في أخطاء كهذه دليل سطحية وعدم إحاطة كافية لدى مؤلف العمل.
ثمة نسبة تكثيف مبالغ بها في كل من كمية الشر لدى الابنة التي قامت بدورها الممثلة بشرى وكذلك شخصية مديرة دار الأيتام، وكمية الخير والمثالية لدى إمام (التصوير النمطي والساحر لشخصية البطل في الذهن العربي)، ودرجة الغموض المتحراة بطريقة متعمدة لإضفاء طابع بوليسي على العمل، لكن الطريف أن أيا من تلك الألغاز لم يكن معقدا كثيرا، بل بالوسع تمني أن تكون كل الألغاز والمهام التي تناط بالصحافة الاستقصائية على هذا القدر من السهولة، وتحديدا لمن يضع نصب عينيه إسقاط حكومة أو أي من أركانها.
يشعر المتلقي في بعض الأحيان أن هنالك تعمدا في التلميح لشخصيات مصرية بعينها، معروفة حتى للمتلقي العربي وليس المصري فحسب، مثل المخرجة التي ارتبط اسمها بالأعمال والآراء الجدلية، ووزير الثقافة الذي تدور شكوك حول التلميع الذي حظي به، وبادئ ذي بدء الفنانة التي انتحرت بشبهة ترك مذكرات تفضح كثيرين، على الرغم من نفي من لعبت دورها (رانيا فريد شوقي) أن تكون هي المقصودة. وقد يفسر هذا النفي بمحاولة التنصل من أي تبعات قانونية على المؤلفين، أو إضفاء مزيد من الغموض على العمل لاجتذاب المتلقي.
يبقى إمام ابن النظام المصري العسكري، مهما تغيرت وجوه القائمين عليه؛ ولعل قوله إنه ليس معارضا للنظام بل لأي "غلط" يرتكبه أي نظام سابق أو حالي أو لاحق، هو تأكيد واضح وصريح ضمن نص المسلسل على أن الانتقاد ليس معناه قلب الطاولة على رأس النظام، الذي وإن تمتع رجاله بالخبث، إلا أنهم يحاولون حماية البلاد لا أكثر، بحسب تصويره.
لم تكتمل حلقات "عوالم خفية" بعد، لكن من الممكن قول هذا بثقة: يستحق إمام رفع القبعة لاعتبارات كثيرة، رغم المثالب، وأول هذه الاعتبارات إصرار الرجل السبعيني على بذل الجهد والوقوف في "بلاتوهات" التصوير لأشهر والثقة بأسماء شابة، أي أن إمام لم يركن يوما لأمجاد الماضي، بل ما يزال في سعيه الحثيث نحو النجاح، وهذه بحد ذاتها ظاهرة عربية نادرة.