عودة إلى "الحشد الشعبي"

تأسست "هيئة الحشد الشعبي" في العراق، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أي بعد سقوط الموصل بيد تنظيم "داعش" بأربعة أشهر، لتكون الإطار الرسمي للمليشيات الشيعية. و"الإطار الرسمي"، هنا، يعني شكلاً من أشكال ما يمكن تسميته "دولنة المليشيات"؛ أي إن هذه المليشيات أصبحت جسماً تابعاً للدولة، يرأسه ويشرف عليه أحد المسؤولين الحكوميين الكبار، وهي تموّل من المال العام، ويتقاضى كل عنصر من عناصرها راتبا رسمياً. غير أن هذا "الإطار الرسمي" لم يعنِ أن قرار كل مليشيا من هذه المليشيات أصبح بيد الحكومة، أو مرتبطا بالقادة العسكريين الرسميين، بل ظل بيد قادتها.اضافة اعلان
الجزءُ الأهم من هذه المليشيات قديم ("منظمة بدر"، "عصائب أهل الحق"، "كتائب حزب الله في العراق"...)، تكوّن قبل العام 2003، أو في السنوات القليلة التي أعقبته. وبعضها -وهو الأغلب- أُنشئ بعد سقوط الموصل، حين تسارع تكوين مليشيات، جلها مرتبط بالتنظيمات السياسية الشيعية القائمة، استجابة لفتوى "الجهاد الكفائي"، لتضم عشرات الآلاف من الشباب الشيعة الذين تطوعوا لقتال "داعش"، وبالتالي يتكاثر عدد المليشيات، أو فصائل "الحشد الشعبي"، ليبلغ نحو 50.
إن سياق تكوّن "الحشد الشعبي"، وارتباط فصائله بالتنظيمات السياسية الشيعية، على ما بينها من خلافات عميقة، يعني أن "الحشد" ليس كتلة واحدة منسجمة. وفي الحقيقة، ثمة تناقضات عميقة بين فصائل "الحشد"، تبدأ من تحديد وفهم مهمته؛ هل هو مقاتلة "داعش" في أي مكان وتحرير سائر الأراضي التي سيطر عليها، أم حماية المناطق الشيعية، أم مجرد حماية المراقد المقدسة، وقد هدّدها "داعش".
يعتقد بعضُ المسؤولين عن "الحشد الشعبي" أن مجرد تمويل المليشيات من المال العام سيعمل، تدريجياً، على قطع أي صلة لهذه المليشيات بـ"الجهات الأجنبية". ويُقصد بهذا التعبير إيران تحديدا. غير أن معركة تكريت كشفت لنا أن إيران هي التي لعبت دور الموحّد وضابط الإيقاع لهذه المليشيات، وهي التي قرّبت فهمَها لمهمتها ودورها.
مع ذلك، فقد قلتُ -في المقال السابق- إن معركة تكريت أطلقت ديناميكية لإعادة تعريف وصياغة "الحشد الشعبي". فمن جهة، لا يستطيع الزعماءُ الشيعة (بمن في ذلك المعتدلون منهم) التخلي عن فكرة "الحشد الشعبي"، بوصفها استجابة شيعية عامة، مجتمعية ودينية وسياسية، لتحدي "داعش" الذي هدّد صراحة بضرب المراقد الشيعية المقدسة، فضلا عن تهديده الحكم الشيعي في بغداد، وسائر المناطق الشيعية. كما أن هؤلاء الزعماء لا يثقون بأن المؤسسة العسكرية والأمنية قادرة وحدها على الصمود في وجه تحدي "داعش". ومن جهة أخرى، يدرك هؤلاء الزعماء أن ثمة إشكالات جادة وعميقة في "الحشد الشعبي"؛ في التناقضات والاختلافات بين مكوناته، وفي قدراته الفنية على إنهاء الحرب على التنظيم، بعد نحو سنة على سقوط الموصل، وفي قبول الشركاء في الجبهة المقاتلة لداعش ضمنه، لاسيما الولايات المتحدة والتحالف الدولي.
قبل أقل من شهر، أعلن السيد عمار الحكيم، وهو أحد أبرز زعماء الاعتدال الشيعي، عن رفضه "الشروط الأميركية بإبعاد قوات الحشد الشعبي عن المشاركة مقابل تدخلها (الولايات المتحدة) الجوي بالمعركة". مع ذلك، لن يقود هذا الرفض، في تصوري، إلى إبقاء "الحشد الشعبي" على ما هو عليه، بل سيقود إلى إعادة صياغته؛ بنية وهيكلا، ووظيفة، وعلاقات.
هذا التعديل هو نقطة التوازن بين مخاوف واعتراضات الشركاء من "الحشد الشعبي"، والرغبة الشيعية العامة في إبقائه.
وأظن أن الأشهر المقبلة قد تشهد عملية جذرية لإعادة هيكلة "الحشد الشعبي". وستشمل هذه العملية، كما قلت، إعادة تعريفه، وتعريف وظيفته، وحدود حركته، وبنيته، وطبيعة علاقاته بسائر مكونات الجبهة المقاتلة لداعش. وستتحكم بهذه العملية طبيعةُ التوازنات بين هذه المكونات، فضلا عن التناقضات القائمة أصلا بين مكونات "الحشد الشعبي"، وربما طبيعة العلاقة بإيران ودورها في الحرب على "داعش".
في الخلاصة، أتوقع أن تنتهي هذه الديناميكية، لا إلى التمييز بين نوعين من "الحشد"؛ "حشد مقبول" و"حشد غير مقبول"، بل إلى صيغة أكثر مقبولية من "الحشد الشعبي"، يمكن أن تدمج وتأخذ مكانها في الحرب على "داعش"، برضا وقبول واتفاق سائر الشركاء.