عودة التقارب التركي الإسرائيلي.. الأسباب والتداعيات

شاشانك جوشي، وآرون شتاين
 (فورين بوليسي) 3/4/2013

ترجمة: عبد الرحمن الحسيني

اضافة اعلان

بعد ثلاثة أعوام من الانقطاع، تتجه واحدة من أهم العلاقات في الشرق الأوسط إلى عتبه الإصلاح. وسيستغرق الامر فترة طويلة قبل أن تستطيع تركيا وإسرائيل العودة إلى العمل بالشكل الاعتيادي، وستبقى العلاقات بينهما رهناً بالسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. وبالرغم من ذلك، ستكون للاعتذار الإسرائيلي لتركيا في الشهر الماضي تبعات بعيدة المدى بالنسبة للمنطقة. فهو يفتح طريقاً أمام البلدين للعمل سوية، ولو من خلف الستار، فيما يتعلق بموطن اهتمامهما المشترك الأكثر إلحاحاً -سورية- بالإضافة إلى طائفة من القضايا الأخرى، بما فيها التكنولوجيا العسكرية والتعاون بين حلف الناتو وإسرائيل.
وكان الجمود قد انكسر أخيراً عندما اعتذر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لنظيره التركي رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، عن الغارة الإسرائيلية التي شنت على السفينة مافي مرمرة في العام 2010 وأفضت إلى مقتل تسعة مواطنين أتراك. وكانت العلاقة بين البلدين قد توترت في الأعوام السابقة، فيما عاد في جزء منه إلى حرب إسرائيل على غزة، في عملية الرصاص المصبوب في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2008 إلى كانون الثاني (يناير) من العام 2009. وفي صيف العام 2009، انسحب أردوغان من المسرح على نحو مشهود في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، بعد صدام مع رئيس إسرائيل شيمون بيريز حول الحرب. لكن غارة العام 2010 أعطت أردوغان الفرصة لنيل قصب السبق في الوطن على حساب حزب العمل القومي، ورفعت أكثر من منزلته الإقليمية.
وفيما تحولت طموحات أردوغان السياسية في الأعوام منذئذ، فقد عمد رئيس الوزراء المتمتع بالشعبية إلى التخلي عن تحالف المصلحة هذا مع القوميين المتشددين. لذلك نرى إسرائيل قد فقدت بعضا من هالتها كقضية جدلية لصالح حزب أردوغان "العدالة والتنمية". ذلك، بالتناغم مع مغادرة وزير الخارجية الإسرائيلي المتشدد أفيغدور ليبرمان، وزيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لإسرائيل، والاهتمامات المشتركة للبلدين في سورية، فقد مهدت الأرضية لاعتذار نتنياهو الحاسم ولقبول تركيا له.
وكان الاعتذار خروجا عن الطبيعة المتغطرسة تقليديا للقيادة الإسرائيلية، حيث تجرع نتنياهو حبة دواء مرة في الحقيقة. وبالرغم من أن الرأي العام فضّل تقديم الاعتذار، فإن المسؤولين الإسرائيليين أصروا في السابق على أن إسرائيل "لن تعتذر أبداً عن دفاعها عن مواطنيها.. لم يكن الجانب الإسرائيلي هو من بادر إلى استخدام العنف".
وفي الأثناء، يخرج أردوغان، وقد جعل إسرائيل تتوسل -بإصراره على تقديم الاعتذار ودفع التعويض- كفائز غير منازع، حيث كان تنازله الوحيد هو إسقاط مطلبه، بهدوء، بأن تنهي إسرائيل حصارها لغزة. وكان لديه القليل ليخسره، ويظل حزبه القوة المهيمنة في السياسة التركية. وبينما لا تعد سياسات إسرائيل في الاراضي الفلسطينية شعبية، لم يعان أردوغان في الانتخابات عندما تعاون عن كثب مع إسرائيل في منتصف العقد الأول من الألفية الثانية. وبالاضافة إلى ذلك، فإن العديدين في تركيا القلقين من خطاب رئيس الوزراء العنيف المعادي لبشار الأسد، ما يزالون يدعون البلد إلى التراجع عن تورطه الاقليمي وتبني نهج أكثر تصالحية.
ويتوج الاعتذار شهراً مشهوداً لأردوغان. فقبل أسابيع وحسب، ضمن وقفاً لاطلاق النار مع حزب العمال الكردستاني (بي كيه كيه)، ممهدا أرضية العمل لانهاء الصراع الذي شيطن تركيا لعدة عقود. وبعمله ذلك، قوى من طموحاته لتمديد مدة حزبه عبر تعديل الدستور وتولي سدة رئاسة معززة.
وبالرغم من ذلك، أكد أردوغان تغطية أجنحته السياسية. وقد هدد رئيس الوزراء مرة أخرى بزيارة الأراضي الفلسطينية "لرصد حصار غزة"، بينما يصر وزير الخارجية، أحمد داود اوغلو -وإن كان بشكل غير مقنع- على أنها تمت تلبية كافة طلبات تركيا.
بينما كان لهذا التوجه المفاجئ أثر مقلق على البعض في إسرائيل، فإنه من غير المرجح غالباً أن تتراجع تركيا عن قبولها الاعتذار الإسرائيلي. ويريد حزب التنمية والعدالة التركي تعزيز روايته للتطورات والتي يقدمها للناخب التركي. فبعد ساعات وحسب من تقديم الاعتذار، رأينا عمدة انقرة يثبت شاخصات إعلانية تشكر أردوغان على تأمينه الاعتذار، فيما يستمر داود أوغلو في الاصرار على القول إنها كانت دبلوماسية تركيا المبدئية –وليس المصالح المشتركة في سورية- هي التي أفضت إلى التغير الكامل في السياسة الإسرائيلية. ويبدو أن الحقيقة تكمن في مكان ما بين هذين الحدين المتناقضين.
وبالاضافة إلى ذلك، لن يكون الأمر مسألة أعمال تجارية كالمعتاد. فقد عمل التهميش الناجح الذي أحدثه حزب التنمية والعدالة للجيش –الذي شكل تاريخيا اقوى معبر وداعم كبير للتحالف التركي الإسرائيلي- على تغيير معايير السياسة التركية. وسواء كان الأمر بالاعتذار أو بدونه، فقد أصبح أردوغان أكثر حرية في إعلان ما يجول في فكره عن إسرائيل أكثر من أي زعيم من أسلافه، وسيستمر في استغلال نمو المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وغيرها من القضايا الاستفزازية لغاية تحقيق الكسب السياسي. ولذلك، سنجد تركيا على المدى القريب مستمرة في تأطير الاعتذار الإسرائيلي على أنه استسلام، وستظل تعرب للعموم عن توجس من "التطبيع".
في المقابل، عمدت القيادة الإسرائيلية، التي استشرفت بالضبط رد الفعل التركي هذا، إلى التزام الهدوء حتى الآن. ويعود جزء من الأسباب وراء ذلك إلى أنها أقل اهتماماً بالأجواء من عنايتها بالنتائج. وطيلة الأعوام العديدة السابقة، ظلت السياسة الخارجية التركية مترددة. وفي العام 2010 انفجرت دبلوماسية أنقرة في وجهها عندما رفضت الولايات المتحدة وأعضاء آخرون في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة دائمة العضوية في المجلس، بالاضافة إلى ألمانيا، صفقة نووية توسطت فيها تركيا مع إيران. وقد توترت علاقة تركيا مع إيران منذ ذلك الوقت، لأن الجمهورية الإسلامية رفضت منح تركيا امتيازات اقتصادية تفضيلية بعد قرار الأخيرة التصويت ضد العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على إيران في حزيران (يونيو) من العام 2010. وقد تمزقت العلاقات بينهما أولا بعد أن استضافت تركيا راداراً للناتو، الأكثر حداثة، على أراضيها، بعد أن وضعت الحرب في سورية البلدين على طرفي نقيض. وكانت تركيا قد استضافت ورعت الثوار المعادين للأسد، لكنها راقبت الوضع بغضب متزايد فيما يستمر الصراع في التوسع.
الآن، تجري السخرية على نطاق واسع من مبدأ السياسة الخارجية التركية "صفر مشاكل" مع الجيران، لدرجة أن وزير خارجية تركيا وجد نفسه مضطراً إلى الرد على "العديد من المنتقدين لسياستنا الخارجية" الذين كانوا "قد فسروا المبدأ بطريقة سخيفة". ولن تحل استعادة الشراكة التركية-الإسرائيلية هذه المشاكل لكنها تخلق بالفعل فرصاً دبلوماسية جديدة.
بداية، سوف يُقابل الاعتذار بمزيج من الحذر والراحة في المقر الرئيسي للناتو في بروكسل. وكان قد تم استثناء إسرائيل، على الرغم من انضمامها لحوار الناتو المتوسطي قبل عقد، من التمارين العسكرية المشتركة للتحالف، استجابة للمطالب التركية المتصلبة، كما منعت إسرائيل من حضور أي ورشات عمل أو ندوات تعقد في تركيا. وفي العام الماضي، رفضت تركيا حتى المشاركة الإسرائيلية في قمة الناتو في شيكاغو.
وتتطلع تركيا بشغف إلى استئناف التعاون مع إسرائيل التي تعد أكثر أقوى قوة عسكرية في المنطقة، فيما تقلق الحرب الأهلية الجارية في سورية والأزمة النووية مع إيران هذا التحالف. وقد أعرب مسؤولوها عن اليأس من السلوك التركي. فقبل شهر واحد وحسب، أعلن أردوغان "إن امتلاك هذا الفهم القاسي سوف يتعارض مع بنائنا وتاريخنا وثقافتنا". ولك أن تنظر عن كثب الآن إلى النهج الذي سيعقب.
أشار العديدون، بمن فيهم وزير الطاقة التركي تانير يلديز، إلى تجدد إمكانية تصدير الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى تركيا. لكن هذا قد يكون سابقاً لأوانه. وبعد أن اتفقت إسرائيل وقبرص في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2010 على عدم تحديد مناطقهما الاقتصادية الخاصة في شرقي البحر الابيض المتوسط من أجل التنقيب عن الهيدروكربونات، استدعت وزارة الخارجية التركية سفير إسرائيل للشكوى وأوصت بأنه سيكون هناك تصرف عملي ضد الجهود القبرصية لاستخراج الغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية الخاصة في جنوب قبرص.
وقبل أيام وحسب، كررت تركيا إصرارها على تراجع إسرائيل وقبرص عن تعاونهما في مجال الطاقة وأن تأخذا في الحسبان حقوق الأقلية التركية في الجزيرة. ولا تعترف تركيا، على عكس الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة وإسرائيل، بحق حكومة نيقوسيا في التفاوض على هذه الاتفاقيات قبل التوصل إلى تسوية بخصوص الجزيرة. ويجب أن يمر أي خط أنابيب إسرائيلي-تركي من خلال الجرف القاري لقبرص. ومن غير الممكن أن يتم ذلك ما لم تقم تركيا بحل قضاياها مع قبرص، وهو أمر لا يبدو وأنه يلوح قريباً في الأفق.
لكن ما يستطيع الاعتذار فعله هو استئناف علاقات الدفاع بين تركيا وإسرائيل. وبينما كان الجانبان معتادين على إبراز تواريخهما الديمقراطية المشتركة، فقد تعززت روابطهما بشكل كبير بسبب اهتمام القوات المسلحة التركية بالتكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية. وتجدر الاشارة إلى أن الروابط الدفاعية الوثيقة التي كانت قد بدأت في العام 1996 قد استمرت حتى وقوع حادثة السفينة "مافي مرمرة". وقد تكون موافقة إسرائيل الشهر الماضي على تسليم معدات خاصة لنظام الإنذار المبكر والسيطرة (أواكس) المحمول جوا لتركيا إشارة إلى أنه يجري الآن ترميم هذه العلاقة، فيما يعود في جزء منه إلى الضغط الذي تمارسه كل من شركة بوينغ والحكومة الأميركية.
تستمر تركيا في التعويل على الطائرات من دون طيار من صناعة إسرائيل في مراقبة الحدود ومكافحة الإرهاب، وهي منصات باشرت تركيا في وقت متأخر تصنيعها بنفسها. وتستطيع القوة الجوية التركية أن تتوقع كسب المزيد من التعزيز إذا باشر الجانبان العمل سوية في تكنولوجيا الطائرات من دون طيار. ومن جهتها، تستطيع إسرائيل مرة أخرى الاستفادة من شهية أنقرة النهمة للحصول على أسلحة تتمتع بالتكنولوجيا الفائقة. وكان خفض مستوى الروابط بين البلدين قد افضى إلى إلغاء العديد من العقود العسكرية، ومن المرجح أن يكون قد تسبب في إلحاق خسارة بالصناعات الجوية الإسرائيلية تقدر بملايين الدولارات.
وثمة احتمال بأن يسمح التقارب الجديد برفع وتيرة التعاون الاستخباراتي حول سورية. وينطوي البلدان، كما يجدر التنويه، على اهتمام مشترك بمنع وصول الأسلحة الثقيلة إلى مجموعات مثل حزب الاتحاد الديمقراطي المتحالف مع حزب العمال الكردستاني في شمالي سورية، وحزب الله في لبنان، بالإضافة إلى مراقبة ورصد المرافق السورية المشكوك بأنها خاصة بالأسلحة الكيميائية. وتظل قدرات تركيا في الاستخبارات والاستطلاع والطلعات الاستكشافية محدودة، في الوقت الذي شرعت فيه الولايات المتحدة في الحد من المعلومات التي تتقاسمها معها. وهناك شائعات رائجة منذ فترة شائعات عن تعاون استخباراتي بين البلدين، حيث تبقى كل من إسرائيل وتركيا شريكين طبيعيين في هذا المضمار.
وأخيراً، قد يهز الاعتذار صورة دبلوماسية تركيا في الأراضي الفلسطينية. وستكون تركيا قادرة مرة أخرى بعد الاعتذار على التحدث مع كل اطراف الصراع. وقبل سبعة أعوام، كان أردوغان قد دعا رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، لزيارة أنقرة، ما أثار حفيظة إسرائيل وأثر لاحقاً في انهيار الروابط. ومؤخراً، شاهدت تركيا تحول لاعبين دبلوماسيين جدد، مثل قطر ومصر، إلى التأثير في غزة التي تديرها حركة حماس بعد حرب تشرين الثاني (نوفمبر) هناك. وقد أصرت تركيا على أنها كانت مركزية في عملية صنع السلام في القاهرة التي توسطت لإنهاء القتال، لكنها كانت في الحقيقة لاعباً صغيراً.
من المؤكد أن تركيا لن تقطع روابطها مع حماس. وفي تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2012، تم استقبال مشعل بالوقوف في المؤتمر القومي لحزب العدالة والتنمية، كما أنه زار أنقرة مرة أخرى الشهر الماضي. حتى أن مشعل تحدث مع أردوغان لتهنئته على جعل "الكيان الصهيوني.. يركع صاغراً". لكن تركيا قد تعيد توازن روابطها، بشكل بطيء، لصالح منافس حماس، حركة فتح، وهو ما سترحب به إسرائيل في وقت تتحرك فيه القوى الإقليمية بقوة في الاتجاه المعاكس. حتى أن تركيا قد تشعر بأنها أصبحت في موقف يؤهلها للتوسط لعقد مصالحة بين الفصيلين، وهو شيء حاولته وفشلت فيه في العام 2009. ويمكن توقع حدوث توتر في العلاقات بين تركيا ومصر عندما يتكشف ذلك.
لقد تم إعداد زيارة أوباما للشرق الأوسط بحيث يتم تذكرها بكلمته التي حظيت بإطراء كبير، وإنما مع القليل من الجوهر. وبجلبه أردوغان ونتنياهو إلى المصالحة، وهما حليفان اقليميان رئيسيان للولايات المتحدة، سيعتبر البيت الأبيض أنه استطاع انتزاع نجاح للسياسة الخارجية تمس الحاجة إليه كثيراً في رئاسة أوباما الثانية، والذي يقوّي الائتلاف ضد إيران. وسينظر إلى ذلك على أنه قدم إجابة لأولئك الذين حاججوا بأن الدبلوماسية الأميركية أصبحت غير متعاطفة مع مشاكل الشرق الأوسط بشكل خطير. ومع أن هذه خطوة صغيرة، لكنها تؤثر تقريباً على كل قضية إقليمية تحظى بالاهتمام لدى واشنطن. وستكون ثمة فترة طويلة قبل أن تصل العلاقة بين تركيا وإسرائيل إلى أوجها القديم في التسعينيات، لكن هذا الاعتذار يمثل بداية لإعادة اصطفاف دبلوماسي كبير.
*شاشانك جوشي: زميل بحّاثة في معهد الخدمات المتحدة الملكي في لندن ومرشح لنيل درجة دكتوراه الفلسفة في كلية الحوكمة في جامعة هارفارد. آرون شتاين: مرشح للدكتوراه في كلية كينغز في لندن وبحاثة متخصص في انتشار الاسلحة في الشرق الأوسط في مركز الاقتصادات ودراسات السياسة الخارجية الذي يتخذ من استانبول مركزا له.

*نشرت هذه القراءة تحت عنوان: The Turkey Israel reapprochement

[email protected]