عود على بدء: المسألة الثقافية والحكومة

د.أحمد ماضي

سررت بما تضمنته الرسالة التي بعث بها رئيس الوزراء إلى جلالة الملك عبدالله الثاني، ردا على رسالة جلالته إليه. وقد يسأل سائل: وما دواعي هذا السرور؟ إنه الموقف الذي اتخذه الرئيس إزاء الشأن الثقافي. وليس ثمة أدنى شك في أنه موقف متطور ومتقدم جدا.اضافة اعلان
وإن دلّ هذا الموقف على شيء، فإنما يدل على أن النقد الذي وجه سابقا، وفي أكثر من مرة إلى "السياسة" الثقافية للحكومة قد أخذ بالحسبان. وعلى نحو أثلج صدور المثقفين والمبدعين، وأراح عقولهم، وطمأن نفوسهم.
وما أتمناه، ويتمناه معشر المثقفين والمبدعين والأكاديميين، أن لا يكون الموقف الجديد مجرد رد فعل، أو استجابة لرغبة صاحب الجلالة. إنّ ما نريده هو أن يكون هذا الموقف فعلا، وليس انفعالا. هل يا ترى هو كذلك، أعني أنه فعل، وليس انفعالا؟
إن الزمن لكفيل بجلاء الموقف، وهل هو موقف الفاعل، أم موقف المنفعل. لقد جاء في رسالة الرئيس أن الحكومة تؤكد "التزامها بتقديم الدعم اللازم (التسويد مني) للمبدعين الأردنيين، فنانين وكتابا، وتوسيع نطاق تمثيلهم ومشاركتهم (التسويد مني) في المؤسسات واللجان ذات الصلة.
وستواصل الحكومة مع نقابة الفنانين الأردنيين ورابطة الكتاب والأدباء الأردنيين، واتحادهم، وكافة الهيئات الثقافية والفنية، خاصة في المحافظات، للوقوف على أحوالها، وضمان العدالة في الفرص، وتقديم كل الدعم (التسويد مني)؛ ليبقى المبدعون الأردنيون ضمير الأمة الحي، وترجمان نهضتها ومنجزاتها، في بيئة من الحرية والانفتاح" (التسويد مني).
وكان صاحب الجلالة قد أكد في رسالته للرئيس ضرورة إعطاء "الدعم الكامل" للمبدعين من فنانين وكتاب، ولفت النظر إلى أن عطاءهم ظل "حاضرا على ضيق الدعم (التسويد مني) المقدم لهم، داعيا المؤسسات الثقافية والإعلامية إلى "دعم حقوق المثقفين والفنانين ومطالبهم المشروعة".
إن ما ورد أعلاه في الرسالتين، يجمل، بعامة، وباختصار شديد، ما تسعى إليه الحركة الإبداعية والثقافية في أردننا الحبيب. ولا مراء في أنه موقف واضح أيّما وضوح تجاه هذه الحركة. وإذا ما ترجم هذا الموقف إلى إجراءات وقرارات، بحيث يتم وضع خطة عمل استراتيجية تهدف إلى النهوض بالشأن الإبداعي والثقافي، فإن المثقفين والمبدعين والأكاديميين سيتنفسون الصعداء، وعندئذ سيتيقنون من أن الحكومة جادة في ما ذهبت إليه، وأن ما ورد في رسالة الرئيس ليس انفعالا، بل هو فعل بحق وحقيق.
وعلى الرغم مما تقدم، فإن القارئ لتصريحات الرئيس، وردوده في وسائل الإعلام المختلفة، يلحظ غياب "الشأن الثقافي" في كلامه. فهو يتطرق بين الفينة والأخرى لهذا الموضوع أو تلك القضية، ويسهو عن الحديث عن المسألة الثقافية، أو أنها لا تعنيه. كما تعنيه المسائل الأخرى.
قد يفسر ذلك بأن المواضيع الأخرى هي التي تستأثر باهتمامه أولا، ولذلك لا يتطرق إلى المسألة الثقافية. إن ذلك جلي لدرجة أنه عندما يتحدث عن الإصلاح، يذكر من ضروبه: السياسي والاقتصادي والإداري..، كما تشكل الحكومة لجنة لوضع الاستراتيجية الإعلامية، وكأن المسألة الثقافية بغنى عن أي إصلاح.
والواقع أنها تحتاج، بنظري، إلى إصلاح جذري يستند إلى رؤية تنويرية ومستقبلية في آن معا، ذلك لأن الموقف الرسمي حيالها ليس مستقرا على نحو يرضي المعنيين بها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، لأنّ أهميّتها تفوق، من حيث تأثيرها في عقلية المواطن وسلوكه، أي شأن آخر.
لقد عانت الثقافة (والفن مكون رئيس من مكوناتها) – وما تزال- الأمّرين، ولم تزدهر –على الصعيد الرسمي- إلا في العهد الأول لحكومة الدكتور معروف البخيت، عندما كان الدكتور عادل الطويسي وزيرا للثقافة في تلك الحكومة.
إن المطلوب من مؤسسات المجتمع المدني التي تمت بصلة قريبة إلى الثقافة، وأيضا الجامعات، وأخص الأردنية وفيلادلفيا، أن تتداعى لمؤتمر يعقد في أقرب فرصة، وذلك لوضع "استراتيجية ثقافية" تكون مرجعية للشأن الثقافي، على أن تشارك وزارة الثقافة، في ضوء ما ورد في الرسالتين في هذا المؤتمر، بحيث تفصح عن الإجراءات والقرارات التي ستتخذ، وذلك ترجمة للموقف الوارد في كل من رسالة صاحب الجلالة، وفي رسالة الرئيس. وكل ذلك بالتشاور والتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني المذكورة أعلاه. عندئذ سيتحقق معشر المثقفين والمبدعين والأكاديميين من أن ما جاء في رسالة الرئيس إنما هو من قبيل الفعل لا الانفعال.
وعندئذ ستكون وزارة الثقافة ذات حضور ملموس قولا وفعلا. إنها مدعوة إلى أن تشغل مركز الصدارة بين الوزارات، أو – على أقل تقدير- أحد هذه المراكز. وإذا ما استخدمنا اللغة الاقتصادية، فإن الوزارة ينبغي أن تنتقل من الأطراف إلى المركز. ولن يتأتى لها ذلك، إلا إذا أصبحت وزارة مركزية بجدارة واستحقاق، وليست طرفية كما هي الآن.
وأختم قائلا إن الإصلاح لن يؤتى ثماره، إلا إذا كان شاملا، وأيضا غير قائم على التمييز بين قطاع وآخر. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يتعين أن يستند الإصلاح المنشود إلى رؤية إنسانية، أعني أن يكون المواطن هو هدفها.
إن التنمية المستدامة تحتم تضافر الجهود في شتى المجالات، وإيلاءها الاهتمام نفسه. وليس ثمة مجال أفضل من الآخر، إلا لأسباب قاهرة، ومؤقتة. إن المواطن لا يحيى بالخبز وحده، ذلك لأنه كائن كلي. وأي نظرة تجزيئية إليه يمكن أن تسهم بجعله كائنا ناقصا، إذا ما رافقت هذه النظرة اهتمامات بمجالات وإغفال عن أخرى.
إن المواطن جسد وعقل. وكما أن للجسد غذاءه، فللعقل غذاؤه أيضا. ولا أعتقد أن اثنين يمكن أن يختلفا بشأن الغذاء الثاني. إنه الثقافة وحسب. لذلك أدعو الحكومة إلى إيلاء هذا الغذاء ما يستحق من اهتمام، وذلك بترجمة ما ورد في الرسالتين، إلى إجراءات وقرارات تدل على أن الحكومة معنية بالشأن الثقافي، كما هي معنية بالشؤون الأخرى، ومعنية بالإصلاح الثقافي، كما هي معنية بضروب الإصلاح الأخرى.
 إننا – معشر المثقفين والمبدعين والأكاديميين- ننتظر بفارغ الصبر وضع الأمور في نصابها، مؤكدين استعدادنا للتعاون – أفرادا ومؤسسات - لتحقيق هذا الإصلاح. ولا يخفى على الحكومة أننا مؤهلون لذلك، في ضوء ما نملك من خبرات وأفكار. فهل من دور نضطلع به في رسم صورة هذا الإصلاح، وكيفية إنجازه؟.