عولمة النّخب.. عولمة الثّورة!

عنوَن مروجو العولمة مشروعهم بعبارة شاعرية: "العالَم يصبح قرية صغيرة". وقد اختير هذا التوصيف الدعائي لاستدعاء صورة عالَم مثاليّ؛ قرويّ في بساطته ودَعته، إنسانويّ في تطلعاته ومنظوراته. وقد فتحت العولمة المشهد الكونيّ فعلاً أمام العيون، وانكشفت الزوايا القصيّة أمام عدسات الكاميرات والشاشات. لكن الصورة لم تكشف عن "قرية" خضراء، وإنما عن مدينة رمادية كالحة بالغة القبح، أشبه بمدن المتشردين في أفلام "المستقبل" الأميركية، فيها عصابات بطبائع غير بشرية، تعيش في المجاري تحت الأرض، وتصارع نظاماً تحرسه شرطة من الروبوتات!اضافة اعلان
كانت العولمة، في الحقيقة، عربة تحمل بضاعة شركة كبيرة فاسدة واحدة، وتعبر بها الحدود التي أصبحت مفتوحة، لتبيعها على النّاس وتأخذ نقودهم. وقبل أن تكشف التقنيات الجديدة الغشاوة عن بصيرة سكان الكوكب، ضمنَ مبتكروها أولاً أن يصبح الناسُ هم المكشوفون أمام عينهم الجاسوسة التي تتطفل على العالم، وتنتهك الخصوصيّات. وأصبحت الصورة البانورامية للبشرية في القرن الحادي والعشرين، هي البؤس المشترك، والخديعة المشتركة، والحرب التي تستهدف مواطني العالم جميعاً.
الآن، يتحدث المراقبون عن الحركات الشعوبية العابرة للحدود، مدفوعة بسخط إنساني عميق من مآلات الأمور. وعلى الرّغم من الفروقات التفصيلية بين الشعارات التي يرفعها المحتجون على الأنظمة التوليتارية في المدن العربية، أو ضد الشركات المتوحشة في مانهاتن، أو ضد واقع الظلم الاجتماعي والفقر في بريطانيا واليونان، أو ضد الفساد في شوارع نيودلهي، فإن المشترك الجوهري في كل ذلك هو وصول التناقض إلى حدّ الصراع بين مواطني العالم كلهم من جهة، ونخبة العالم كلها في الجهة الأخرى.
كان هذا الفرز الحاد هو مقدمة العولمة ونتيجتها. فقد هدفت نخبة العالم الحاكمة الساعية أساساً إلى تعظيم ثروتها ونفوذها، إلى أن تكون العولمة وسيلة للمزيد من الوصول إلى موارد العالم وأسواقه. وعنى التدفق الحرّ للسلع عبر الحدود زيادة البيع بزيادة المستهلكين. واقتضى ذلك قتل فرصة الشعوب النامية في دخول معترك المنافسة في الإنتاج، وبالتالي تعميق الفقر وإدامة التخلف. وتم ترسيخ الأنماط الاقتصادية الرعويّة المتكرسة في العالم النامي، بتمكين سيطرة النخب السياسية الحاكمة على الموارد وبيعها لصالحها. وقد لجأت دول العائلات هذه إلى تخدير طموحات وإمكانات مواطنيها بالقمع والتدجين، ومنعهم من رفع صوتهم بالاحتجاج.
وحتّى في الاقتصادات الصاعدة، مثل الصين، حيث يتوقع المرء قدراً من الرضى الاجتماعي، تتحدّث التقارير عن درجات عالية من الغليان الاجتماعي والإحساس بالظلم. وهناك، لا يبدو الناس راضين أيضاً عن تقسيم الثروة وانتهاك الحيز الفردي، حيث تسكت الدولة مواطنيها بالقرصنة على مداخلاتهم الإلكترونية، وتحاسبهم على ذلك. وفي الهند القادمة بقوة إلى مشهد النفوذ العالمي، يبدو أن النّخب نفسها هي التي تستفيد من هذه الاندفاعة الاقتصادية، وتحافظ على تمايزها باستخدام نفس أدوات السلطة. وفي أوروبا الصناعية، تعمقت الأزمة الناجمة عن ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض القوة الشرائية للناس، بسبب حلّ معضلات نخب الأعمال والسياسة برفع الضرائب على الناس وحرمانهم من التأمين الصحي وتعويضات التقاعد والضمان الاجتماعي.
أما آخر مكان توقعنا فيه قيام احتجاجات شعبية على السياسات المحلية، فهو الولايات المتحدة الأميركية التي كانت تُصوّر على أنها بلد الفرصة والمساواة. لكن الحركة الأميركية التي ترفع الآن شعار "احتلوا وول ستريت" فجرّت هذا التوازن الشكلي، وكشفت حدة التناقض الشعبي مع النخبة المالية التي انتفخت على حساب الناس. وعندما تعثرت، سارعت نخبة واشنطن السياسية إلى إنقاذها أيضاً من جيوب الناس وعلى حساب حاجاتهم. وفيما يبدو، التحق أكبر اقتصاد في العالم بالحراك العالمي المشترك، المدفوع بالسخط من الأنظمة والقادة الذين يفشلون في تحقيق العدالة الاجتماعية والعناية بحاجات الجماهير.
ربما كان الناتج العرَضي الذي لم يدخل في حسبة النخب التي روجت العولمة، هو تسهيلها أمر انتقال عدوى السّخط وآليات الاحتجاج، وتوحيد الإحساس بالمعاناة الكونية. وقد أصبح عنوان الثورة العالمية هو رفض النخب السياسية التقليدية، ورسوخ الاعتقاد بأن العولمة لم تفد سوى القلة الأغنياء، والضيق بفساد نخبة السياسة والمال العالمية. هكذا، أفضت عولمة النخب إلى عولمة الثورة. فهل يتمكن مواطنو الكوكب من عولمة العدالة واحترام الإنسان؟!